حين تكون في أقصى الجنوب، محاطاً بمن أحبّك وأحببته، وقد اقتطعت الطبيعة لك وسط النخل بيتاً أخضر، تظلله شجرتان عملاقتان، وجادت عليك البلاد بنهر يطفح بالماء مرتين كل يوم، وحين يكون الربيع قد غمرك بزهوره وألقه، وألقت السماء عليك من مائها ما كنت بحاجته، وحين تجد نفسك عارياً من الوساوس والفتن والبغضاء لأحد، حين تشعر أنك تنتمي لما حولك بكل جوارحك، تفتح نافذة غرفتك فتقف عليها قبيلة من عصافير ملونة، تمد يدك فتقطف ما تشاء من البهجة والفرح والسعادات. وسط لحظة خالصة للضوء والأمل كهذه، لا تسمح لأحد بأن يُذكّرك بما يحدث في المنطقة الخضراء!
كن حيث تكون، اقرأ ما بين يديك من الروايات وكُتب الشعر، لا تقرأ من جحيم دانتيه شيئاًً، ولا سطرا في يوليسيس جيمس جويس أو حرفاً في مسخ لكافكا. دعك من هؤلاء، ولا تقرأ أشعار وقصص حروب العراقيين أو بوستات أصدقائك الوهميين، الذين يتحدثون عن المجازر الطائفية والموت بالمفخخات، اتركْ أخبار السياسيين السَّفلة، ولا تفتح كتاباً واحداً لفقيه احمق- هل بينهم غير أحمق- دعك من برامج التحليلات وخبراء الجيش والتسليح وصفقات الفساد. من أنت حتى تضيع عمرك في تفاهات هؤلاء. فليقف من يقف هناك، وليخرج من يخرج الى الساحات وليعتصم مَن يرى ذلك نافعاً، مَن أنت حتى تتلفت لمثل هذه الترهات؟
في بداية السبعينيات، توهمت نفسك مناضلاً ضد حزب السلطة، أغراك البعض بالانضمام لحزب معارض آخر، وفي شيء من زهو ورفض ومراهقة سياسية رحت تنظم صفوفك محتجاً على مسار حياة بني جلدتك، كنت تأمل لهم ما هو أفضل واجمل وأليق بكرامتهم. حلم وهوس وحديث في الغيب والمستقبل، أشياء مثل هذه، ومما لا يليق بك، حملك على الهرب والتخفي في القرى النائيات، دفعك الى القفز من السطوح والنوم في البيوت المهجورة والمراكب القديمة، ومن ثم ضياع المستقبل جراء ملاحقة رجال الأمن والسجن والضرب والاهانة. أيسجل أحدهم ذلك في تأريخك؟ أيكفيك أن يشير لك أحدهم في رسالة، يحملها لك ساعي بريد الافتراضات.
بالأمس، ذهب المالكي، رئيس الوزراء السابق إلى قريته طويريج ليتحدث لهم عن تاريخ حزب الدعوة، عن المناضلين القدامى، عن الشهداء الذين التفت الحبال على أعناقهم، عن السجناء الذين ماتوا امام أعين رفاقهم، دونما قوة سماوية تتدخل لأنقاذهم، تحدث عن كل ما هو ماض وأسطورة وخرافة، لكنه لم يتمكن من أن يحدثهم بشيء يُليق بحياتهم، لم يستطع أن يقنعهم بأن حياتهم قد تحققت في لحظة دهرية ما. وكذلك سيذهب هذا وذاك من سياسيي السخف والمهانات الى القرى والقصبات والمجالس والمساجد والحسينيات وسيقول لهم بأنه يسعى من أجلهم، وهو لا يأبه من الموت، لأن غايته اسعادهم، اسعادهم حسب، ويقسم بأنه لن يدّخر جهداً لذلك. أتأتي السعادة عبر هؤلاء ؟ يا الله ، ما أكذب القرود في الأقفاص !!
ما الذي سأفعله لأهل الفلوجة الجياع الآن، وما الذي سأقدمه لأهل الموصل إذا كتبت في صفحتي الالكترونية (بوست) عرضت فيه طبقاً فاخرا من طعام، باللحم والرز والبطاطا او عرضت لمهاجر صورة غرفة من بيتي، وقلت هي لك، تسكنها متى شئت، لكنني، وبعيداً عن النفاجة والمهاترات: هل يمكنني الوصول الى الفلوجة، إلى الموصل حقأ؟ انا إنسان بسيط، لا أملك سوى قوت شهري، أعمل يوميا مثل حمار في ناعور، أشد رقبتي بطوق من البلاستك، أقي به فقراتي العنقية من الاحتكاك والالتئام، أسند ظهري بحزام خشبي، كيما يعينني على القيام والقعود. ترى لماذا أجدني حائراً، حزينا، دامعاً ؟ هل كنت السبب في معاناة هؤلاء؟ هل يمكنني فعل شيء لهم؟
سأجلس في فسحة خضراء خلف المنزل، أقرأ قصائد والت ويتمان عن العشب والانهار، أقرأ في سان جون بيرس عن البحر والمراكب، استمتع بما حولي من النخل والزهر والبلابل. ولا شأن لي بمن جاع وهجّر ومات، لكنني سأخاطب الله قائلاً: كل الأحزاب الاسلامية التي تحكم العراق وتتصارع عليه حملت اسمك واسم دينك، كل الفقراء والجياع والمهجرين والموتى حملوا مصحفك وتحدثوا بحديث نبيك وتوجهوا لقبلتك وتقاتلوا من أجلك، فكن لهم، كن لهم أنت وحدك، اما أنا فجالسٌ هنا إلى الأبــــد.
أما أنا، فجالسٌ هنا.. إلى الأبـد
[post-views]
نشر في: 29 مارس, 2016: 09:01 م
جميع التعليقات 1
محمد سعيد
كلمات مفعمه بحب الحياة, ارادت ان تكشف لنا زيف وكذب ورياء القسم الاعظم من ساسه العراق الجديد من ناحيه , وتركيزهم فقط في تخليد الماضي بذكريات نضالات موهومه, بل ربما غيرمؤكده... ولا احد يعلم مدي صدقيتها , نفي الواقع المؤلم المعاش , سحق كل امال ال