سأكتب عن زها حديد .. قلت لصديقي علي الشوك، وأنا أتبادل معه حواراً تلفونياً عن تجليات التوهج واستلابات الانطفاء. سألني ما إذا كنت أعرفها شخصياً أو لدي معلومات عن سيرتها. قلت: ليس مهمّاً التفاصيل في مثل هذه الحالة لتبني عمارة شخصية لقامة متفردة م
سأكتب عن زها حديد .. قلت لصديقي علي الشوك، وأنا أتبادل معه حواراً تلفونياً عن تجليات التوهج واستلابات الانطفاء. سألني ما إذا كنت أعرفها شخصياً أو لدي معلومات عن سيرتها. قلت: ليس مهمّاً التفاصيل في مثل هذه الحالة لتبني عمارة شخصية لقامة متفردة مثل زها، فتفاصيل السير الذاتية تكتسب قيمة لمن لا تكتمل ملامحهم دون محطاتٍ للتفرّد والمَثَل والعبرة.
زها لا تشبه إلّا نفسها، بغضّ النظر عن كل ما يمكن أن يقال، فهي اسمٌ على مسمّى بكل ما لهذا من معنى، لا يستقيم له معنى إلا لمن لا يشبه الإ نفسه، ويصعب أن يتكرر. إن اسم زها ووشمها وفضاءات توهجها تبان في الحجر إذ ينبعث حيّاً فينطق بالبيان، وتصبح انحناءات رسومها، وهي تتلاقى وتفترق أو تتقاطع وتتجاور ثم تلتمّ فوق بعضها، بحد ذاتها وبما تعيد خلقه من تكوينٍ لغة صادمة، عابرة للغات.. لغةً ليس مثلها لغة غير الموسيقى، تتهادى دون استئذان الى شغاف القلب والروح والنفس الهائمة بعيداً بعيداً في الأعماق، حيث لا قرار وحيث الألق السحري ومقامات الجمال والإبداع وإعادة التكوين والخلق.
أيّ معنىً ليوم ولادتها ، وأيّ إضافة لانحدارها الأسري، وماذا سيعني لها أن تكون ملاعقها ذهباً خالصاً وصحونها من فضّة، واللصوص المبتدئون في زمننا العراقي هذا يتيمّمون بماء الزعفران ويغفون على وسائد من حريرٍ وزبرجد، فلا يخلّفون غير لصوصٍ، معهم يترحّم العراقيون على الحواسم ونابشي القبور وسرّاق بيوت اليتامى.
كَم كان الجواهري منصفاً، مدركاً لكوامن عبقرياتٍ تضعها أقدارها في زمنٍ عاقٍ لا يعرف حرمة لمبدعيه الأفذاذ؟ وبأيّ لوعةٍ وانتباهة حسيرة فيّاضة بالمشاعر العميقة ومناجاة للنفس جيّاشة باللوعة ، حين ينشد:
ليتَ السماء الأرض ليت مدارها
للعبقري به مكان شهاب
يُومَى له ويُقال ذاك شعاعه
لا محض أخبارٍ ومحض كتاب
لم يجد الجواهري له مسكناً آمناً في دنياه، ولم يتدثّر بالتراب الذي كان يشُمّ رائحته وهو على البعد، فغفا في غربةٍ عن دجلة الخير، وعطر طينها وأفانين موجاتها، ومات مثله كلّ أفذاذ العراق العَقوق بعباقرته ووطنيّيه وأكارم قومه.
ولو كان الجواهري حيّاً، ولو على فراش المرض، ويُنبَأ بموت زها حديد، لتحاملَ على نفسه وأطلق آهةً يلمّ بها حسرة كلّ عراقي على من كان فِخاراً لأممٍ وشعوبٍ تعرف أقدار من أثروا كنوز العالم بالمعرفة والفن والعلوم والقيم الإنسانية، لا فرق عندهم بين لون وخلافه، وجنس وآخر . وكيف لهم غير ذلك، وقد بنوا بكل هؤلاء صروح عالمٍ يتنفس كل خلقٍ إنساني بديع، فنّاً وثقافة وعلماً ومجداً ما بعده مجد.
هل هي مجرّد مصادفة أن يتردّد اسم زها حديد المعمارية العبقرية، العراقيّة المنبت والانتماء، في الدنيا المتقدمة كلها، وتُصبح لها بصمة رديفةً للجمال والإبداع، وهي محطّ أنظار كلّ مَن له عين تُبصر، وعقل يُبحر في عالم الإبداع ويُميز، وإدراك يكتشف بيسر مكامن للعشق الإنساني العابر للغات والأجناس، ولا ذكر لها في وطنها غير خبرٍ لا يساوي أكثر من شروى نقير..؟!
وهل هو مجرّد سوء تقديرٍ أو فعل جاهلٍ قليل الحيلة، أن تبقى زها حديد على مسافة من وطنها، كأنها أقرب الى المتطفّل الغريب، لا تُكرَّم رغم أنها أعلى قدراً ممن يمكن أن يمنحها وشاح التكريم، وتموت دون أن تضع وشمها على مَعلَمٍ يؤشّر إلى وطنٍ لا يجد رعاياه تجسيداً لذاتهم الخلّاقة سوى في أوطان الغير، وترحل ومعها حسرة على ضياع وطنٍ صار مرتعاً لموت الضمير وفقدان الأمل بالانبعاث؟
أهي صدفة أن تموت زها في الغربة لتلتحق بكوكبة عراقية أضاءت فضاءاتٍ في أركان متباعدة من قريتنا الكونيّة الملمومة على العلم والفن والثقافة، وقد مات قبلها الجواهري وغائب طعمة فرمان وبلند الحيدري والبياتي ومحمود صبري وفائق حسن ونازك الملائكة وفؤاد التكرلي وزينب وفائق بطي وسواهم، لنموتَ نحن بحسرتنا على أملٍ يخبو وسريرةٍ تنغلق على نفسها، ومرتجىً "محمومٍ" يظلّ يتطلّع إلى آتٍ لا يأتي؟
ومتى نصحو ونتلفّت حولنا، وننهض من رماد الجهالة وثقافة الإلغاء والتحريم وخواء الروح وقيم الجاهلية، ونسمو فوقَ أحزاننا لنُعيد التكوين والارتقاء والنهوض؟!
جميع التعليقات 2
ام رشا
الأستاذ الكاتب لن اعلق على كل ما جاء في مقالك فقط ساعلق على السطر الاخير من المقال واسأل لماذا لا تبدؤن بانفسكم..!فلقد ذكرت اسماء مبدعين غالبيتهم من الشيوعيين ... ذكرت الجواهري ولم تذكر عبد الرزاق عبد الواحد وذكرت البياتي ولم تذكر السياب وذكرت فايق حسن و
alzahawe
أحسنت يا فخري كريم في كل ما قلت