ما تشهده البلاد منذ آب 2015 لا يمكن وصفه إلا بالفوضى. فهناك مشاريع متقاطعة ومتعارضة داخل النخبة السياسية، وهي لا تقل تقاطعا مع توجه المكونات العراقية غير المسيسة.
الأصح اننا نمر بالنسخة الثانية والمحدثة من الفوضى الخلاقة التي شهدها العراق منذ الاطاحة بنظام البعث في مثل هكذا أيام قبل 13 عاماً. فطيلة العقد الماضي عشنا في عالم افتراضي من صنع الفوضى الخلاقة بنسختها رقم 0.1. لقد تأسس هذا العالم على المحاصصة الاثنوطائفية التي اسلمتنا بدورها الى حكومات فاسدة اهدرت ثروات البلاد، ودولة فاشلة فقدت سيادتها، بسبب نفوذ دول الاقليم، وفقدت جزءا من اقليمها الداخلي على يد تنظيمات ارهابية.
ولو اقتصرت نتائج الفوضى بنسختها الاولى، على ما مرّ لكان الأمر هيناً ومحتملاً، بالنسبة لبلد غني وشعب تحمل جوع وحصار التسعينيات، مكتفياً بالملابس المستعملة، ورغيف الحصة بشوائبه المعروفة.
لكن الفوضى الخلاقة هذه، أسهمت بشكل ممنهج ومدروس بترسيخ ومفاقمة مخاوف المكونات العراقية ازاء بعضها الآخر، عبر اجراءات حكومية واخرى قانونية أدت بالمحصلة الى تمزيق نسيج التعايش الراسخ والعميق بين العراقيين.
وبات الحديث عن مواطن عراقي ومواطنة عراقية ضرباً من الحديث غير المسؤول بالنسبة للكثيرين. ونقصد رموز العالم الافتراضي، الذي عشناه منذ 2003، بتغييب الهوية الجامعة لصالح الهويات الفرعية. فلم يعد هناك عراقي بهوية فرعية، بل أفراد بهويات فرعية يقطنون بلدا اسمه العراق.
في ظل هذا المناخ المشوّه سياسيا واجتماعيا، الذي فرض ورسّخ بشكل وبآخر، لم يعد هنالك افق ممكن لمواصلة العيش في عالم المحاصصة الافتراضي. فقد أدى تراكم الاحباط والاستياء من أداء الدولة والكتل السياسية الى ارتفاع صوت النقد السياسي شيئا فشيئا، ثم تطوّر هذا النقد الى فعل احتجاجي بدءا من تظاهرات شباط 2011، حتى تظاهرات البصرة في الصيف الماضي. وتصاعدت موجة الاحتجاجات على خلفية انهيارات أمنية وسياسية ثم ازمة اقتصادية خانقة.
لكن ما يدعو للاستغراب، أن تركب كتل واطراف سياسية، مشاركة ومخضرمة في نظام المحاصصة الفاسد، موجة الاحتجاجات العفوية وغير المسيسة، بل ان تنجح في استمالة بعض اطرافها، لتحقيق مكاسب جديدة على حساب شركائها.
وللمفارقة، فان الاحتجاج، كان بحسب التجربة الانسانية، فعلاً اجتماعاً شعبياً موجهاً لنخبة سياسية او اطراف داخل هذه النخبة تحتكر السلطة والثروة. لكن الامر كان معكوسا في العراق، لأن الاحتجاج، ذا الصوت العالي، كان احتجاجا سياسيا، وفي الوقت ذاته يوجه لجهات سياسية شريكة!؟
خلاصة ما يحدث منذ حزم الاصلاحات، التي اطلقها رئيس الوزراء في الصيف الماضي، ان صراعاً سياسياً محتدماً يجري وراء الكواليس للاستيلاء على ارث نظام المحاصصة الذي كتبت شهادة وفاته بعد سقوط الموصل بيد داعش، وانهيار أسعار النفط لاحقا.
ورغم اتفاق العراقيين على انتهاء صلاحية صيغة ما بعد صدام، وهو اتفاق تاريخي بكل ما للكلمة من معنى، لكن محاولة تجاوزها بصيغ وحلول مرتجلة وانفعالية لا تقل خطورة عما سبقها، لانها تقدم نسخة محدثة لفوضى تحمل البصمات ذاتها والدمار ذاته.
ان الانقلاب على المحاصصة بأدوات المحاصصة لا يعني سوى نسخة جديدة من الفوضى الخلاقة التي تخرج البلد من نفق وترميه في ثقب أسود لا نهاية ولا قرار له. وتتجلى خطورة هذا المسار، في وقت لازال الصوت الشعبي المستقل ضعيفاً وبعيداً عن التأثير، وهو أعجز من ان يقود حراكاً حقيقياً لتجاوز المحاصصة، وفرض معادلة تعايش صحية وممكنة.
الفوضى الخلاقة 0.2
[post-views]
نشر في: 2 إبريل, 2016: 09:01 م