كان السيد نوري المالكي رئيس مجلس وزراء العراق على امتداد دورتين انتخابيتين، "متصالحاً" مع نفسه وهو يهاجم في خطابه الأخير "هرطقات" دعاة حكومة "التكنوقراط" المستقلين، ويُعبّر عن غضبه واستيائه من تجريد المنتمين الى أحزاب الإسلام السياسي من هذا الا
كان السيد نوري المالكي رئيس مجلس وزراء العراق على امتداد دورتين انتخابيتين، "متصالحاً" مع نفسه وهو يهاجم في خطابه الأخير "هرطقات" دعاة حكومة "التكنوقراط" المستقلين، ويُعبّر عن غضبه واستيائه من تجريد المنتمين الى أحزاب الإسلام السياسي من هذا الامتياز، كما لو أن أحداً منهم لا يحمل شهادة عالية أو تخصصاً علمياً مرموقاً.
وهذا افتراءٌ ما بعده افتراء، إذ كيف يستقيم ذلك مع وجود شخصياتٍ بارزة على رأس الأحزاب المذكورة وفي الكابينات الوزارية الحالية والتي سبقتها وما قبلها أيضاً؟ فالسيد الجعفري طبيب شَغلته السياسة وإن خسره الطب، ومَن منّا لم يخسره ميدان اختصاصه ولم تكسبه السياسة؟ والسيد الشهرستاني عُرف في الأوساط العراقية عالماً نووياً استعصى على اختصاصه هروباً من تطويعه لـ"جهنميّة" النظام المباد. والمالكي نفسه يحمل شهادة الماجستير في الأدب العربي من جامعة كردستانيّة، وحيدر العبادي مهندسٌ مشهودٌ له بالكفاءة في مجال اختصاصه، بشهادة الدكتوراه من جامعة بريطانيّة مرموقة. ربما تُثار إشكالية في أنّ تكنوقراط الأحزاب الإسلامية "ألهَتهُم" الحياة الحزبية عن متابعة ما تطور في ميدان اختصاصهم. والحياة الحزبية، وهذا ليس عيباً في أحزاب الإسلام السياسي، تُركّز على انخراط كوادر الحزب وقادته بالتبحّر في علوم الدين وطقوسه وشعائره ومناسباته، وما أكثرها شيعيّاً.
لم يظهر المالكي متناقضاً مع سويّته، وهو يهاجم المدنيين والعلمانيين، بل ربما كان أكثر وضوحاً في التعبير عن وجهة نظره وهو خارج السلطة عما كان عليه وهو على رأسها عندما كان يضطرّ لكسب رضا غير الإسلاميين. ويمكن الجزم، لمن في عينيه غشاوة من الواهمين، بأنه جسّد في خطابه الأخير وما جاء فيه، توجهات البرنامج السياسي لحزب الدعوة الذي يرأسه، أو بعبارة أدقّ توجهات مريديهِ وأنصاره من الحزب. ولا يحتاج الأمر لذكاء لامع للقول إن برنامجه "في الباطن" دعوة لنظامٍ إسلامي - ديني يُقصي كلَّ انتماءٍ لمشارب أخرى. وقد لا أكون مغالياً إنْ قلتُ إنها دعوة لدولة دينية شيعية خالصة، كلّ مَن فيها من غير مذهبه ودينه "ملحقٌ" بها شاء ذلك أم أبى.
ولا أستطيع أن أُنكر على السيد المالكي ما يريد، فهذا شأنه وهو على رأس حزبٍ إسلامي طائفي "شيعي" لا نكران في أنّ المئات من أعضائه استشهدوا والآلاف عُذّبوا وتشرّدوا دفاعاً عن عقيدتهم وقناعاتهم. لكنّ ذلك لا يصلح للمحاججة في أحقيّة الحزب أو غيره من الأحزاب على امتلاك ناصية الحكم أو الانطلاق منها للتبشير بشعار "ما ننطيها"، وإلّا فإنّ الحزب الشيوعي العراقي سيكون أحقُّ بالحكم، إذا احتسبنا جيش شهدائه وكوادره وأعضائه وتضحياتهم وعذاباتهم وذبح قادتهم بتعذيب فاق ما تعرّض له غيرهم.
ويعرف السيد المالكي، بالتجربة العمليّة، أنه جاء الى الحكم عبر صناديق الاقتراع، دون حاجة للأخذ بكل ما قيل عن التزوير والرشى وتوظيف إمكانات الدولة وماكنتها الدعائية ، ووعودها وإغراءاتها التي يتّهمه بها خصومُه، ويمكن أن يعود إليه ثانية عبر تلك الصناديق. وليس مهمّاً ما سيصدر عن مجلس النواب في دورته الحالية من تحديد عدد دورات الرئاسات الثلاث، فليس أسهل منالاً في دولتنا من تركين الدستور والقوانين وتطويعها!
بعد هذا أعود لأهمّ ما تضمّنه خطاب السيد المالكي، المتمثّل في تأكيد صلاحية المشروع الإسلامي في حكم البلاد. وهذا، مرة ثانية، حقٌ له ليؤكد عليه كلما أراد ذلك ما دُمنا في غيبة من إقرارٍ نهائي لقانون أحزاب يُحرّم تأسيس الأحزاب على أساسٍ ديني أو مذهبي أو طائفي أو إثني، ويُلزم بأن تكون الاحزاب وطنية منزّهة عن أي نزوعٍ يفكك نسيج المجتمع العراقي ويفرق بين مكوناته. وقد أخطأ الصديق العزيز غالب الشابندر حين ردّ بانفعال على السيد المالكي مفنداً وجود مشروعٍ إسلامي، ومندداً بما قاله عن "التكنوقراطية" !
بدلاً من مغالاته في الإنكار، كان يكفي الشابندر أن يستعيض عنه بإقرار وجود المشروع، بدليل محاولة أبي إسراء تنفيذه على مدى ولايتين متتاليتين، ولم يحالفه فيهما النجاح . وكنتُ أتفهم نفي الشابندر للمشروع لو توقف عند محطات مشروع المالكي والفشل المريع الذي لحقه على كل مستوى وفي كل ميدان.
لِمَ نشطح بالإنكار، ونَحرم العراقيين من التعرّف على تلك المحطات التي قادت العراق الى هاوية الحرب الأهلية والقتل على الهوية واستباحة "الميليشيات الوقحة" الكرامات والمحرّمات، وتمكين قطعان داعش الإرهابي التكفيري من السيطرة على ثلث العراق والاستيلاء على نصف سلاح وعتاد الجيش العراقي ومليارات الدولارات وتشريد ملايين النازحين، وتمزيق ما تبقى من اللحمة الوطنية، وإطلاق رصاصة الرحمة على ما سُمّي بالعملية السياسية، ليُعلن كل من فيها أنها باتت منتهية الصلاحية وبحاجة الى غرفة إنعاش وعناية مشددة؟! وإذا لم يكن هناك مشروعٌ إسلامي، كما يُغالي الكاتب المجتهد نقيّ السريرة غالب الشابندر، فماذا يُسمّي إحياء العشائرية تحت لافتة لجان الإسناد؟ وبماذا يوصَف منع المظاهر المدنية في أهم المدن العراقية العريقة كالبصرة والحلة والناصرية، من مهرجانات موسيقية وغنائية ودور سينما ومسرح؟ وبماذا ننعت تحويل المدارس والجامعات الى سوحٍ للّطم والتمثيليات الطائفية وخطاب الكراهية، بدلاً من تعزيز مختبراتها العلمية وترصين مناهجها التعليمية؟!
كان على الشابندر أن يُوجز بلا عصبية، فيقول للمالكي: إذا كان ما فعلتَه هو المشروع الإسلامي ، فإنه قد فشل غير مأسوفٍ عليه.
خطاب المالكي، كما قرأتُه، يعكس الخلاف داخل الحزب الذي يقوده، وبخاصة الحديث عن "المؤامرة" التي رأى المالكي أنها تستهدف المشروع الإسلامي وتتنكّر لـ" التكنوقراط" من تيار الإسلام السياسي، إذ ليس سرّاً أنّ صاحب طلقة الرحمة في هذه "المؤامرة" هو الدكتور حيدر العبادي رئيس مجلس الوزراء والقيادي في حزب الدعوة، وقد يُقال عنه كل شيء لكنه لم يُبدِ ما يؤشر لبراعته في التآمر، إلّا إذا نظرنا إليه من زاوية انقياده للجانه السريّة التي فشلت في أن تُعينَه على تسمية كابينته التكنوقراطية، وآذت صدقيّتَه حين أثارت زوبعة حول توجهه الى إعلان الطوارئ وحل البرلمان وتجميد العمل بالدستور في حال عدم انصياع البرلمان للتصويت على "ظرفه" المغلق غير المختوم.
أُقدّر لأبي إسراء صراحته وتمسّكه بمشروعه، وأتفهم انفعال غالب الشابندر. ولا يفوتني التعبير عن التباس الأمور عليّ ، بقدر تعلّق الأمر بالتجاذبات حول موقع التكنوقراط في هذه السبيكة الهجينة من كلامٍ يُداف في لُغم السياسة، وينحرف خارج السرب ..
جميع التعليقات 4
آمنة حافضة
كم نتمنّى لو اتفق ساستنا على أن يتفقوا ، وينشلوا أوطاننا من خطر واقع ، لا سبيل للفرار منه.. تحياتي...
Saad Al-Dabbagh
لا أعتقد أن الصفات الوظيفية للمسئولين صحيحة ، و أعتقد أن الوطنية بمعانيها السامية لا تتوفر في هؤلاء القادة ، و أعتقد أن ما يجمعهم و للاسف هو بغض البلد و اهله
mohammed almalili
أود فقط االأشاره الى حديث السيد نوري المالكي عن تضحيات حزب الدعوه وبالتالي احقيته في حكم العراق .أولا أن التضحيات لغرض استلام السلطه وسرقة المال العام وسرقة احلام الناس والعبث بمصير البلاد والعباد هي لاتختلف في شيء عن تضحيات داعش. ألا تقدم داعش يوميا عشر
mohammed almalili
أود فقط االأشاره الى حديث السيد نوري المالكي عن تضحيات حزب الدعوه وبالتالي احقيته في حكم العراق .أولا أن التضحيات لغرض استلام السلطه وسرقة المال العام وسرقة احلام الناس والعبث بمصير البلاد والعباد هي لاتختلف في شيء عن تضحيات داعش. ألا تقدم داعش يوميا عشر