كنت شاباً صغيراً مفتوناً بعدد من الكتّاب .. أراهم دائماً يرسمون فى مخيلتى عالماً من الشخوص والنماذج الملهمة.. لذا كنت أحرص على قراءة كل سطر من سطورهم .. سُعدت بالساحر توفيق الحكيم الذي ادخل البهجة الى حياتي ، وانا اتابع مصائر أبطاله وأفراحهم وأحزانهم
كنت شاباً صغيراً مفتوناً بعدد من الكتّاب .. أراهم دائماً يرسمون فى مخيلتى عالماً من الشخوص والنماذج الملهمة.. لذا كنت أحرص على قراءة كل سطر من سطورهم .. سُعدت بالساحر توفيق الحكيم الذي ادخل البهجة الى حياتي ، وانا اتابع مصائر أبطاله وأفراحهم وأحزانهم ، حيث استطاع ،وبمهارة الفنان العظيم، ان يخلق لنا عالما كاملا يتحرك فيه ببراعة وسط شخصيات واحداث هي جوهر فنه يكتبها ويعالجها منذ "اهل الكهف" و "عودة الروح" و "عصفور من الشرق" و"زهرة العمر" و"السلطان الحائر" و"يوميات نائب في الأرياف" . هناك عشت مع سحر الكلمات والوجوه والأحداث التي تحمل نكهة الفن الصافي . أما سلامة موسى فقد كان لوحده مكتبة متكاملة تضم الناقد والمفكر والمؤرخ والفيلسوف وعالم النفس والباحث الاجتماعي. وتعلمت من كتب طه حسن كيف اقرأ الادب وكيف أفهمه وكيف أتذوقه ، وطه حسين مثل سقراط يبحث مع قارئه ويناقشه ويسعى لسحق الافكار القديمة ثم يأخذك معه في رحلة استكشاف للادب العربي ، قديمه وحديثه ، وقد كان لكتابات طه حسين الفضل الاول بأن اخذت بيدي لتُدخلني عالما عجيبا مدهشا اسمه الكتاب.
في المتوسطة النظامية أهداني أستاذي ، الفنان الراحل شاكر حسن ال سعيد ، نسخة من الجزء الاول من كتاب "الايام" ، وكان هذا اول تعرفي على طه حسين الذي لم اترك عملا صدر له دون ان أقتنيه . وقد فتح لي عميد الادب عوالمَ وآفاقاً ما أزال أكتشفها منذ ان قرأت الجملة الاولى في كتاب "الأيام" حيث يقول : " لايذكر لهذا اليوم اسما ، ولايستطيع ان يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة ، بل لايستطيع ان يتذكر من هذا اليوم وقتا بعينه ، وانما يقرَب ذلك تقريبا ، واكبر ظنه ان هذا اليوم يقع من ذلك اليوم في فجره او في عشائه ، يرجح ذلك لأنه يذكر ان وجهه تلقى في ذلك الوقت هواء فيه شيء من البرد الخفيف الذي لم تذهب به حرارة الشمس " .
اليوم حين استرجع هذه العبارة ، واتوقف امام مؤلفات طه حسين التي اعدت قراءتها اكثر من مرة ، وأسترجع الفتى الذي كنته ، يوم انتهيت من قراءة الصفحة الاخيرة من "الأيام" فانتابتني رغبة بأن اصبح مثل صاحبها ، حتى انني تمنيت في سري ان استيقظ من النوم ، فأجد نفسي وقد اصبحت ضريرا ، من أجل ان أعيد سيرة الفتى الذي تحدى العمى فانتصر عليه ، وتحدى الفقر فأصبح غنيا بثروة المعرفة ..وقد تعلمت من كتبه كيف اكتب بلا خوف ، وكيف اعيش حرا رغم المصاعب ، ومن خلاله ايضا تعرفت على كنوز الادب العالمي ، ونطقت لاول مرة باسماء لم تطرق سمعي من قبل ، ولعل كتابه "ألوان" كان بوابتي لمعرفة سارتر وكافكا واندريه جيد وجان كوكتو وبول فاليري ، واتذكر انني دهشت وانا اقرأ في هذا الكتاب مقالا بعنوان "سارتر والسينما" ، وهو مقال كتبه العميد في الاربعينات ونشره آنذاك في مجلة "الكاتب" المصرية. ولعل البعض يتساءل : ما هذا ؟ رجل ضرير ويكتب عن السينما وعن افلام لم تزل تمثل حيرة ولغزا للنقاد قبل المشاهدين ، مثل "الدوامة ، وتمت اللعبة ، والاشتباك" واخيرا فيلم عن مكتشف التحليل النفسي فرويد ، ليس هناك مجال للتساؤل في الحقيقية ، فلم يكن طه حسين يمثل استثناءً لقدرة الانسان الخلاقة فقط ، وانما كان هو تاكيد لوجودها ، في هذا المقال المثير لم يكتف عميد الادب بمناقشة افلام سارتر وانما حاول مقارنتها بنماذج اخرى فهو يكتب : "لم يكن سارتر وحده الذي وظف الكاميرا مع الفيلم في الكتابه فقد سبقه في الادب الفرنسي اثنان من أعلامه هما جان كوكتو ومارسيل بانويل ، غير انهم لم يتجاوزوا بآثارهم محاولة التوفيق بين السينما والادب ، اما سارتر فهو لايكره ان يمتع النظارة ولكنه لايكتفي بإمتاعهم ، وهو لايكره ان يعظ النظارة ، لكنه لايكتفي بوعظهم ، وانما يحاول فوق الإمتاع والوعظ ان يعرض عليهم مشاكل عنيفة ، بعضها يعرض للانسان من حيث هو انسان يفكر في حياته ومصيره تفكيرا فلسفيا ، وبعضها يعرض عليه من حيث هو انسان يدبر حياته تدبيرا سياسيا واجتماعيا ، فيلقى في هذا كله ما يلقى من المصاعب والعقاب ".
في الاسابيع الماضية عدت الى اللحظات الاولى التي قرات فيها "الايام" ، وسألت نفسي كيف قرأت هذا العمل الساحر قبل اكثر من اربعين عاما وبأية احاسيس ومشاعر اقرأه اليوم، وانا اتابع سيرة الرجل الأزهري الذي يواجه الحياة في القاهرة وبعد ذلك في باريس، واذ يكتب التجربة ويصف انطباعاته ، حيث يلاحقها بأسلوب أدبي قل نظيره ، ونعيش معه ذكريات مرق الفول في الازهر، وتبرمه ببعض الاساتذة والرفاق. لكن اللغة التي سيكتب بها حتى اللحظات الاخيرة ، هي لغة منحوتة، ببلاغتها وتعابيرها، ، فيما هو يحاول ان يذوب في باريس وعطرها والفنادق الصغيرة في المنطقة الجامعية، ونعرف انه قرر ان يتخذ شريكة له، الفرنسية سوزان التي يرى بعينيها سحر باريس ، وسوف يكتشف عالماً اكثر يسراً وسهولة على الفتى الضرير، من الحياة الخشنة في الازهر . وهنا يكتشف، للمرة الاولى، ان على الضرير ان يغطي عينيه بنظارتين سوداوين سميكتين، وهو المنظر الذي سيرافق صورته في ذاكرتي .
كان طه حسين في السادسة والعشرين من عمره ولم يكن كاتبا معروفا عندما تعرف على سوزان التي اصبحت زوجته فيما بعد وتذكر هي في كتاب "معك" ،وهو واحد من اجمل ماكتب في مجال السيرة الذاتية للادباء العرب، انها: " ذات يوم صرحت برغبتها في الزواج منه فصعقت العائلة واخذ جميع افرادها يصيحون فيها غاضبين: كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟" ، غير ان الفتاة كانت قد اختارت. وجاءها العون من عم لها كان قسا، فقد قال لها بعد ان تنزه مع طه حسين مدة ساعتين في حقول باريس : "بوسعك ان تنفذي ما عزمت عليه.. لا تخافي، فبصحبة هذا الرجل يستطيع المرء ان يحلق بالحوار ما استطاع الى ذلك سبيلا، انه سيتجاوزك باستمرار" . وفيما بعد سوف تكتشف السيدة سوزان ان عمها كان على حق.
************
اللقاء الاول كان في 12ايار عام 1915 ، كان الطالب القادم من مصر قد تقدم لنيل شهادة في التاريخ والجغرافيا في كلية الأداب جامعة مونبليه ، وكانت هي قد بلغت العشرين من العمر ، وبين الساعة السادسة والسابعة صباحا حدثت المعجزة : "لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر ، ولم يكن بوسع امي التي كانت بصحبتي ان تتصور امرا مماثلا " .. نحن الأن أمام فتاة فرنسية متعلمة ومن طبقة متوسطة ، تسعى للحصول على عمل ، وكانت أمامها وظيفة قارئة لطالب اجنبي وضع اعلانا في صحيفة محلية . وبعد سنوات طويلة حين يقص طه حسين حكاية اللقاء الاول في حوار مطول مع غالي شكري يقول : "كنت اول اجنبي تلتقيه هذه الفتاة ، وكانت اول فتاة تزورني ، وكان من الطبيعي اذن ألا تجري محادثاتنا مجرى سهلا" ، سوزان من ناحيتها قالت انها كانت مرتبكة ، وفي حوارها الوحيد الذي اجرته مع الصحفية المصرية امينة السعيد ونشر في مجلة المصور تقول : "كنت على شيء من الحيرة ، إذ لم يسبق لي في حياتي ان كلمت أعمى"، ولكنها تكتشف فيما بعد انه لم يكن اعمى ، بل اجنبي فقط وكان بحاجة الى قارئة باللغة الفرنسية ، وستقوم هي بالدور المطلوب منها ، لكنها بعد اشهر تتجاوز كونها مجرد قارئة ، فقد تحولت الى مرشدة تدله على خفايا الادب الفرنسي : "كانت صديقتي واستاذتي وانا مدين لها ان تعلمت اللاتينية من خلالها ونجحت في نيل إجازة الادب ، وانا مدين لها اخيرا حين استطعت ان اقرأ افلاطون بلغته الاصلية " .
ذات مرة ، كتب طه حسين الى زوجته سوزان يقول: "بدونك اشعر اني اعمى حقا. اما وانا معك، فإني اتوصل الى الشعور بكل شيء، واني امتزج بكل الاشياء التي تحيط بي" . وعندما رحل هو عن العالم، كتبت هي تقول: " ذراعي لن تمسك بذراعك ابدا، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن ".
في كتاب "الايام" نرى طه حسين ويرانا ، وتخبرنا سوزان في "معك" ان فكرة الكتاب نضجت بعد ان تعرض عميد الادب العربي الى موقف عنيف بسبب صدور كتاب له في الشعر الجاهلي ، وخوفا على حياته سافر الى احدى القرى في باريس. وهناك وفي تسعة أيام بدأ يكتب سيرة الطفل الضرير والتي صدر عام 1926 الجزء الاول منها بعنوان "الايام" ، وفيه نقرا صفحات ناصعة جريئة من نضال الانسان وكفاحة واصراره على خوض المستحيل .
هذا الكتاب هو الرسالة التي وجهها طه حسين لابنته البالغة آنذاك تسعة أعوام : "نعم يا ابنتي لقد عرفت ابيك في هذا الطور من حياته ، واني لأعرف ان في قلبك رقة وليناً ، واني لأخشى لو حدثتك بما عرفت من امر ابيك حينئذ ان يملكك الإشفاق وتأخذك الرأفة فتجهشين بالبكاء ".
كتب طه حسين الكتاب وهو في السابعة والثلاثين من عمره ، وطبع الكتاب اكثر من خمسين طبعة وما زال يطبع ويجد قارئا جديدا كل يوم ، وهو يقول لغالي شكري في حوار موسع نشر في كتاب "ماذا بقى من طه حسين" : " ليس الغرض من الايام ان اصف حياتي ، وانما كنت اريد ان ادرس حياة المجتمع المصري في ذلك الزمان" وهو يرسم لغالي شكري حدود نظريته الفنية في كتابة السيرة فيقول: "خصلة اخرى حببت إلي نشر هذا الكتاب ، وهي انه يؤرخ حياة الطالب في الازهر وفي الجامعة المصرية ، وهو نوع جديد من الكتابة ، لست ابحث من خلاله عن الاولوية في القيمة وانما اكتفي بهذه الاولوية نفسها مغريا بنشر المعرفة بين الناس ، ولست اتخذ من اولويته فخرا وانما اتخذ منها معذرة ان كان فيه بعض النقص ".
هذه كلمات العميد ، وهي منهجه النقدي وبصيرته الاجتماعية التي ما زالت رائدة ومازالت متقدمة علينا، لأن صاحبها صادق ، يكتب وكأنه يتنفس مرتاحا في مقعد مريح ، لاتعمد ولا قصدية ولا اصطناع ولكن .. هَم واهتمام وتطويع للغة في التعبير عن المعنى وظله وترددات ظله حتى الرمق الاخير .
أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي"
تتذكر سوزان الأزمة التي اثيرت حول كتاب "في الشعر الجاهلي" فتكتب في مذكراتها :"الضجة التي اقترنت بهذا الكتاب ، وثورة الجهل والتعصب التي اعقبت صدوره نعرفها جميعا ، اما ما لانعرفه فهو ماكانته هذه المحنة في نظر زوجي الذي كانت رزانته الثابتة تمنعه من الشكوى ، لقد بدأ كتابة هذا الكتاب في كانون الاول عام 1926 وانجزه في اذار من العام نفسه. "
ما المشكلة ؟ كان طه حسين في السطور الاولى من الكتاب قد خاطب القارئ قائلا : "وأول شيء لأفاجئك به في هذا الحديث ، هو اني شككت في قيمة الشعر الجاهلي ، وألححت في الشك ، او قل ألح علي الشك فاخذت ابحث وافكر وافكر واقرأ واتدبر حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إن لم يكن يقينا ، فهو قريب من اليقين ، ذلك ان الكثرة المطلقة مما نسميه شعرا جاهليا ، ليست من الجاهلية في شيء ، وانما هي منتحلة مختلفة بعد ظهور الاسلام ، فهي اسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم واهواءهم اكثر مما تمثل حياة الجاهليين."
ما ان ظهر الكتاب الى الاسواق منتصف عام 1926 حتى ثارت ثائرة الوسط الادبي والديني لتظهر عشرات الكتب ترد على طه حسين اضافة الى مئات المقالات واشتركت اكثر من صحيفة ومجلة في المعركة ، وبرزت الاهرام في صف المهاجمين للكتاب فنشرت على صفحاتها الاولى افتتاحيات تأخذ على المؤلف انه اساء للتراث العربي والاسلامي .ولم يشأ طه حسين ان يرد على سيل الهجوم، هذا إلا أنه اجاب فيما بعد على اسئلة وجهها له صديقه احمد حسن الزيات ونشرت في مجلة الرسالة في عددها الصادر في ايار عام 1926.
• أية عاصفة تلك التي أثرتها يادكتور؟
- يجيب طه حسين : ضجة كبيرة لأمر تافه ، ان الاستاذ الذي يلقي دروسه بأمانة كثيرا ما تعرض له في المادة التي يدرسها ملاحظات ومباحث شخصية كما تعرض له في بعض الاحيان نظريات ايضا ، وطبيعي جدا ان يجمع هذه الملاحظات ويصوغها في قالب تحليلي يعرضه مع شيء من التفصيل.
• ولكنك تعرضت لمسائل تعرف انها شائكة.
- بلى ، ولكني طلبت مدفوعا بشغف مهنتي الى اولئك الذين لا يعرفون مناهج النقد الحديثة والبحث الحر ألا يقرأوا كتابا لم يكتب لهم ، ان كتابي جدير بما هو جدير به ، وقد لاتكون له قيمة الا في نزاهة بحثه.
لم تنته الأزمة عند حد الردود فقد أثار الأزهر ضجة عنيفة دفعت احمد لطفي السيد عميد جامعة فؤاد الاول لحجز نسخ الكتاب ، ولكن ذلك لم يخفف من غلواء المتشددين الذين طالبوا بمحاكمة طه حسين ، وانتشرت تهديدات بالقتل ، وبناء على نصائح اصدقائه ذهب الى فرنسا وبقى فيها حتى عام 1927 ، وكانت نهاية القصة ان عقد البرلمان المصري اجتماعا قرر فيه فصله من الجامعة ، لكن نهاية القصة عند طه حسين كانت التفرغ لمدة تسعة اشهر ليُخرج الى الادب العربي واحدا من اهم كتب السيرة وهو الجزء الاول من "الايام".
الكلمات الاخيرة
في يوم 27 تشرين الاول 1973، أصيب طه حسين بوعكة صحية ، ولما جاء الطبيب لفحصه زالت النوبة وعاد صاحب "الأيام" الى حالته الطبيعية، كانت برقية الأمم المتحدة التي وصلت عصر ذلك اليوم تعلن فوزه بجائزة حقوق الانسان، غير انه لم يسعد كثيرا بتلك البرقية ، وبإشارة من يده تعرفها زوجته جيدا ، علّق على ذلك قائلا: " أية حماقة ، يريدون ان يجعلوا من رجل اعمى قائدا لسفينة ؟ "
صبيحة اليوم التالي شرب العميد قليلا من الحليب، ثم لفظ انفاسه. وفيما بعد كتبت زوجته تقول واصفة مشاعرها في تلك اللحظة العصيبة: "جلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن وان كنت هادئة هدوءا غريبا ، ما اكثر ما كنت اتخيل هذه اللحظة الصعبة، كنا معا وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن ابكي ـ فقد جاءت الدموع بعد ذلك ـ ولم يكن احد يعرف بعد بالذي حدث، كان الواحد منا مثل الاخر مجهولا ومتوحدا، كما كنا في بداية طريقنا".