لا أخطر على شعب من الشعوب أعظم من خطر ضياع القيم، ومن فقدان الهوية الوطنية واستخفاف الناس بثوابتهم في الحياة. ما يحدث اليوم في العراق من ضياع للقيم وفقدان للهوية الوطنية واستخفاف بالثوابت أمر مريع، ومن يتابع هذه وتلك، ويغوص في لجة ما عصف بالحياة العراقية قبل وبعد 2003 والى اليوم، لن يتأمل خيراً في مستقبل الشعب.
قد لا يكون الخوض في حالات مثل انعدام الأمن وانخفاض مستوى التعليم او التراجع في الخدمات والصحة والاقتصاد بياناً واضحاً لذلك، ذلك لأنَّ تراجعات مثل هذه قد تحدث في شعب ما، لسبب من الاسباب، لكن متابعة ومعاينة ما هو أصغر وأدق ينكشف لنا عن حقائق كبرى، تنبئنا بصعوبة الحلول واستحالة التغيير في القريب من السنوات.
أقفُ في نقطة ما، في مركز المدينة واتطلع الى أحدهم، رجل في الخمسين من العمر، يرتدي دشداشة سوداء، يعتمر كوفية خضراء أو زرقاء، نصب سرادقاً من شعر الماعز دعّمه بالخشب والحديد، على الرصيف المحاذي للنهر، قل أخذ الرصيف كله، ولكي لا يمكّن البلدية من إزالته، خط على واجهة السرادق عبارات بأحرف يائسة، رسم وجوهاً صريعة وسيوفا تقطر سائلا أحمرَ، ثم أن الناس راحت تعاضده، توقد النار، تطبخ معه، ومع مضخّم الصوت تتسع صورة المشهد، تتعاظم المناسبة. لم يسأل أحدُهم الرجلَ، كأن يقول له: لِمَ سلبت المارة حقها في الرصيف، أو أن النار تفتت المقرنص فيه، أو أشياء مثل أين ستلقي بالصحون والملاعق وفضلة الطعام .. لا ، أبداً. هنالك استجابة للفعل يعبر عنها بالأيدي والعيون.
يدخل مفتش التربية مدرسةً ما، في مدينة اختلطت فيها الطوائف والاديان، يجلس في غرفة المدير أو في غرفة المعلمين، وتجول عيناهُ في حيطان الغرفة هذه او تلك، يقرأ أسماء اثني عشر رجلاً، خُطّت في قطعة من الكارتون أسماء رجال محترمين بالتأكيد، يرى صوراً لطالما شاهدها في المسجد او عند بيت جيرانهم، يدخل معلم بذقن شعثٍ أسود، فلا يثير انتباه المفتش شيئاً، ثم تتفحص عيناه الصور والحروف والكلمات والهيئات، يمسك كتاب التربية الوطنية أو الاسلامية أو التاريخ، يتصفح ويقرأ، فلا يستوقفه أمر من هذه او تلك. وقبل ساعة خروجه يسجل اعجابه في دفتر يحتفظ به المدير في خزانته. لقد أتم المفتش جولته وعاد.
كل يوم يجلس مثقفو المدينة في المقهى التي اعتادوا الجلوس فيها، الكثير منهم سافر وعاد، ذهبوا سائحين ومصطافين في بلدان سعيدة جميلة، دخلوا المتحف والحدائق العامة، ارتادوا النوادي الليلية والمقاهي والمطاعم، تمتعوا بمنظر البحر على الأرصفة في المدن التي تحيطها البحار. يتأفف البعض منهم من ما حوله. لكنهم، متطامنون، متصالحون مع مقاعد المقهى هذه، ألفوا المكان والنادل البنغالي، بثوبه الداكن، ترعة الماء الاسود النازلة من الفنادق والبيوت والمطاعم، لقد دخل المشهد غير المنتظم هذا تاريخهم الشخصي، صار جزءاً من حديثهم في الشعر والرواية واللوحة. أنا أيضاً أحد الجالسين فيها.
بائعة السمك تهش أطنان الذباب الذي تجمع على طشتها، هي تهشه، إذا أقبل احدنا عليها متبضعا، وتصمت عنه تنشغل برضاعة طفلها إذا لم نأت، لكننا نبحث عن السمكة الطويلة الممتلئة، ومثل ذلك نفعل مع البقال وبائع الحلوى. الذباب يعمل معنا على تسوية مصالحتنا مع السوق والبائعين.
كل يوم يأخذ المحافظ ورئيس المجلس ومعهما اعضاء الحكومة طريقهم الى المبنى الحكومي، مارين بعشرات ومئات المشاهد القبيحة، الرصيف بغباره والنهر بأوساخه ومياهه القذرة، بالرجل ذي الدشداشة السوداء ببائعة السمك وبمقهى المثقفين وبمفتش التربية لكنهم لا يشعرون بشيء، هم أيضا تطامنوا، تصالحوا مع المشهد الوطني العام.
في معنى الرثاثة
[post-views]
نشر في: 16 إبريل, 2016: 09:01 م