حين يغيَّمُ الطقس في مدينة أمستردام ويصبح رمادياً، يتذمر الأهالي ويرددون جملة شائعة ومعروفة (أنه مناخ برايتنر) نسبة الى رسامهم الكبير جورج هندريك برايتنر (1857-1923) الذي أثَّرَ تأثيراً كبيراً على الفن الهولندي وكان من أوائل الرسامين الذين رسموا مدينة أمستردام بجسورها وشوارعها مع العابرين والمارة بأزيائهم التي تعود الى القرن التاسع عشر. هذا الرسام الذي وجد في الشارع موضوعاً مثالياً ليظهر موهبته الكبيرة، هو الذي اهتم أيضاً بربات البيوت وعمال السفن المنشغلين بعملهم، رسَمَ كل ذلك وقدّمه بألوان تطغى عليها مسحة رمادية مموهة وغائمة تعكس مناخ أمستردام حيث تختفي صواري المراكب خلف الضباب في الموانئ الصغيرة التي تملأ المدينة. وقد استعمل أيضاً التصوير الفوتغرافي- الذي كان جديداً آنذاك- ووظَفه كما يوظف السكيتشات والتخطيطات الأولية التي تمهد لأعماله، تلك الأعمال التي سجل من خلالها حركة وأجواء المدينة واصبح استاذاً في هذا النوع من الرسم كما في السلسلة الشهيرة التي تكونت من سبع لوحات والتي وَضَحَ فيها اسلوبة وتقنيته ومعالجاته.
أتحدث عن برايتنر اليوم بمناسبة افتتاح معرض مهم له في متحف (رايكس ميوزيام) بمدينة أمستردام والذي أقيم تحت عنوان (فتاة الكيمونو). والكيمونو هو الزي النسائي الياباني التقليدي. وقتها وقع اختيار برايتنر على الفتاة الشابة خيشا كواك لتكون موديلاً لهذه السلسلة التي رسمها من اللوحات، والتي أصبحت أيقونات بالنسبة للفن المتعلق باليابان نهاية القرن التاسع عشر. عرضت في المعرض 20 لوحة مع الكثير من التخطيطات والرسوم التحضيرية التي صاحبت الأعمال وكذلك مجموعة كبيرة من الصور الفوتغرافية التي توثق الكثير من تفاصيل عمله. ومن خلال ملاحظات الرسام في دفتر تخطيطاته وعن طريق الصور أيضاً وبعض التفاصيل الأخرى نرى أن خيشا كان عمرها بين 16-18 سنة حين جلست له كموديل، وهي جاءت من عائلة تعمل في السفن. كان أختياره لها مدهشاً بوجهها المليء بالبراءة وجسدها النحيل واسترخائها ونظراتها التي أعطت بعض الشهوانية للأعمال. هذه هي المرة الأولى التي تعرض فيها هذه اللوحات سوية وهي فرصة نادرة حقاً للاطلاع على هذه السلسلة المدهشة والمقارنة بين لوحاتها ورؤية انتقالات الرسام بينها حيث تتحول الفتاة الجميلة هنا من لوحة الى أخرى ليرسمها بجلسات عديدة جداً وهي ترتدي الكيمونو الأحمر والأزرق والأبيض وغيرها على التوالي، لينتج لنا الرسام هذه المجموعة التي دخلت تاريخ الرسم وأصحبت أحد أركانه المهمة.
في واحدة من اللوحات تضع خيشا رأسها على وسادة صفراء. وبينما هي تشبك يديها قرب وجهها، ينساب الكيمونو الأحمر الذي ترتديه نحو الأسفل ليصل الى السجادة المزخرفة التي يغلب عليها أيضاً اللون الأحمر، وهي تنظر في عيون الرسام بشيء من الغواية. وفي عمل آخر تبدو خيشا تجلس على أريكة عالية وتغفو بكيمونها الأبيض الواسع الذي توشحه زخارف وحاشية حمراء، تضع رأسها على وسادتين وتستغرق حالمة في هدوء وسكينة وهي تتكئ على وسادة أخرى وتضع يديها خلف رأسها حيث يلتمع ثوبها الواسع بزخرفته وحافته المضيئة وتظهر في الخلفية على الجدار بعض الزخارف اليابانية. وهكذا تظهر لنا هذه الفتاة بأوضاع مختلفة، لكن في كل اللوحات يظهر جسدها مغطى بشكل كامل بالكيمونو ماعدا وجهها ويديها اللتين تمسك بهما كتاباً في أحد الأعمال ووردة في عمل آخر.
ولد برايتنر في مدينة روتردام ودرس الرسم في أكاديمة لاهاي ثم في مرسم الفنان وليم ماريس. وقد انتقل الى أمستردام سنة 1886 في نفس الوقت الذي انتقل فيه فنسنت فان غوخ الى باريس. وقد أثَّرَ تأثيراً كبيراً على الانطباعية التي ظهرت في العاصمة الهولندية، وكان يفضل أن يختار موديلاته من قاع المجتمع والطبقات الفقيرة، مثل العمال والخادمات وسكان الأحياء الشعبية هو الذي كان يقول دائماً بأنه رسام الناس.
فتاة الكيمونو
[post-views]
نشر في: 22 إبريل, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...