يأخذ عبد السلام طه جادةً ترابية داخلية، في طريقه الى المسجد، الواقع على الطريق بين العشار وأبي الخصيب، ولا أظنني بحاجة ماسة لأذكر طائفته، فالاسم يشي بوضوح، فهو يعتقد بأن عيون أصحاب المحال التجارية والباعة والمارة مصوبة ناحيته في القرية التي تشكل الطائفة الأخرى غالبية أبنائها. ومثل ذلك يفعل عبد الحسين عباس في قرية أفترضها بصلاح الدين او ديالى، لا تشكل طائفتُه غالبية فيها، فهو يبحث مثل صاحبه (ابن طه) عن جادّةٍ ترابية داخلية، توصله بسلام الى مسجده أو حسينيته. هذان العراقيان يفعلان ذلك في وطن تمزقت هويته. ويفعل عراقيون آخرون مثل ذلك، لكن بصورة مختلفة ربما.
يحدثني عبودي ججو، وهو مسيحي من أهل البصرة عن مغامراته اليومية في سبيل كسب رزقه من بيع الخمور، فهو يقول بان المورد الذي يجلب له بضاعته من بغداد (سائق الشاحنة) يحرص على حشر صناديق البيرة وكراتين الويسكي بين صناديق وأكياس حمولته، ويتحدث عن مشقة كبيرة وإتاوات باهظة كيما يؤمن وصولها. أما طريقة توزيعها على زبائنه فهي من الصعوبة عليه بان يضطر الى تغيير دراجته وسيارته، كلما تحسس بخطر يداهمه، فهو لا يقف في مكان معين، ويغيّر ملابسه، ثم أنه قد يطلق لحيته الاسبوع والاسبوعين ثم يلجأ الى حلاقتها في أفعال لا نجدها إلا في السينما. يقول ججو بانه مواطن من الدرجة العاشرة، في بلاد تتقاسمها طائفتان كبيرتان وأربعة أحزاب كبيرة وعشرات التنظيمات المسلحة.
في العام 2013 دُعيت مع مجموعة من المثقفين والباحثين لحضور مؤتمر (اصدقاء برطلا) القرية المسيحية الواقعة في سهل نينوى بالموصل، كان ذلك قبل دخول مسلحي(داعش). المؤتمر أقيم بناء على شعور بالظلم رفعه السكان المسيحيون هناك، جراء تعرض مناطقهم لنزوح كبير من قبل الشبك( الشيعة) ما أثر سلبا على وجودهم في موطنهم الأصلي وفكك نسيجهم الاجتماعي. المشكلة أن الشبك نزحوا من قراهم في الموصل بسبب مضايقة وتهديد بالقتل من قبل السكان المتشددين هناك، من السنّة أقصد. وحين غزت داعش السهل المسيحي بأقليته الشبكية هذه فرَّ الجميع الى المجهول، تاركين البيوت خالية إلا من أمل بعيد في العودة اليها ثانية.
مثل هذه، وبصورة أكثر أو أقل يمكننا أن نتحدث عن أبناء الطائفة الواحدة، حيث يشعر أبناء الطائفة الشيعية الواحدة، أو داخل البيت الواحد، من الذين توزعوا بين مرجعية هذه السيد او ذلك الشيخ من علماء النجف وكربلاء بالغربة والمضايقة والتهميش،ولا أعتقد بانَّ مسؤولاً في حزب الدعوة مثلا فضَّل تعيين موظف من كتلة الأحرار لمهنيته وكفاءته ونزاهته مثلا. وفي مناطق مثل الحيانية وخمسة ميل والقبلة وكلها في البصرة لا يسمّي الناس بعضهم بأسمائهم الثلاثية، أو بكُناهم إنما يقولون فلان الـس...ي، البـ...ي، المـ.....ي، الكـ...ي وينسبونه لعشيرته، وهنالك شوارع مطلقة لهذه العشيرة أو لتلك القبيلة. وبعد وفاة مرجع أو شيخ إحدى الطوائف الشيعية القليلة في البصرة أضطر أتباعه الى التخفي أو الانتقال والذوبان في الطوائف الأخرى، في فعل قهري وشعور بالضآلة. ومثل هذه يمكننا الحديث عن الأقلية التركمانية في القرية الكردية أو العكس ومثلها نتحدث عن الأيزيدية والزرادشتية والبهائية والعفرية والجرجرية... الخ .
يحدثني أحد الذين التقوا القنصل الأمريكي في البصرة أنه قال: تحاول الإدارة الأمريكية أن تجد فريقا عراقيا خالصا تتحدث معه، فهي تتحاور مع الشيعة الخائفين من هيمنة السعودية وداعش، وتتحدث مع السنّة الخائفين من هيمنة المليشيات وطهران، وتتحدث مع الأكراد الخائفين من هيمنة العرب السنّة وهكذا. العراق بلا هوية وطنية، هذا ما هو كائن وواقع اليوم.
في البحث عن هوية وطنية
[post-views]
نشر في: 26 إبريل, 2016: 09:01 م