TOP

جريدة المدى > عام > في ذكرى رحيل عميد الصحافة العراقية الدكتور فائق بطي

في ذكرى رحيل عميد الصحافة العراقية الدكتور فائق بطي

نشر في: 7 مايو, 2016: 12:01 ص

أول ما تلتقي به، ترسم هيبته التي نسجتها الايام حوله، قلعة عالية، تحول بينك و بين الاقتراب منه، فلا يلبث أن يشدك إليه بابتسامته النقية، ويجذبك لكي تغور داخل شخصية هذا الرجل الابيض، بملامحه وبقلبه ، ولكن قلة كلماته تمنعك دون الوصول الى مبتغاك، والولوج

أول ما تلتقي به، ترسم هيبته التي نسجتها الايام حوله، قلعة عالية، تحول بينك و بين الاقتراب منه، فلا يلبث أن يشدك إليه بابتسامته النقية، ويجذبك لكي تغور داخل شخصية هذا الرجل الابيض، بملامحه وبقلبه ، ولكن قلة كلماته تمنعك دون الوصول الى مبتغاك، والولوج الى أغوار وجدان هذا الرجل العظيم بثقافته، البسيط في تعامله، الرفيع في أخلاقه.....

بعد انتظار قليل، يفصح هذا الشيخ الابيض بكلماته القليلة، فيسحبك من تلابيب قلبك، لكي تسبح معه شيئا فشيئا في رحاب وجدانه الفسيح، الذي أنهكته الظروف، وحفر في قلبه هوة واسعة، بفقدان أحبته، وعلى رأسهم ابنه الحبيب الى نفسه....رافد....الذي تظل ظلاله معه أينما حل، و حيثما ارتحل....رغم هذا ، فلا يسمح للهم الجم الجاثم فوق صدره، أن يخيم على أصدقائه و مقربيه، فهو صاحب الطرفة، والمداعبة الكلامية، التي تشدك اليه أكثر وأكثر....
و بعد مرور الدقائق  والساعات ، والتي لا تحس بانسيابها معه، يهديك ثمرة فكره وعقله، بطيبة خاطر، كتبه ، تباعاً ، وتكراراً، وبعد الاطلاع عليه، تعرف ماهية هذا العلّامة ...فصياغة الكلمات، ورسم العبارات ، ومتانة النص، ورهافة الاحاسيس، في كتبه شيء آخر، يجعله مغايرا لكتب الكتاب والمثقفين الذين قرأت لهم....فهو يخبئ عمق المعاني، في كلمات بسيطة، يكشف أنه لم يصل الى هذه المرحلة من السبك والدقة، الا بعد جهد جهيد، و مخاض طويل، في بحر الكلمات.....
لقد دفعه ظلم أبناء جلدته ، الى الوقوع في مهاوي الغربة، يتقلب ليلا و نهارا في بلاد بعيدة، يشرب من ماء لا عهد له به، ليس له مذاق الرافدين، وصفائهما، وعذوبتهما، يترك رغما عنه، وعلى كره منه، كل ما بناه هو وأبوه وراء ظهره، هربا من بطش الاخوة، الذين يظهرون المودة، ويضمرون الحقد الشديد، الحانق الذي يحرق كل رطب ويابس، فلا يترك مجالا للعواطف ، أن يكون لها كِفْلٌ منها...فلقد عُذِبَ بايديهم، أشد التعذيب، ولم يراعوا فيه عهدا ولا ذمة....و لولا استماعه الى رفاق دربه، والاخذ بنصيحتهم بترك البلاد، لاصابه مثل ما أصاب الكثيرين ، من القتل أو السجن الى ما شاء الله، أو تكون مجهول المصير الى يومنا هذا....
ولكن الغربة، تحفر في قلوب مرهفي الحس أمثال الدكتور، ما لا يحسون به مع ماضي الايام و السنين، و ألم الفراق والبعد عن العراق ، لها أثر على النفوس الخلاقة، فتسبب اختلال الامزجة، فتتكون مواد سوداوية ، تنبش أجسام الادباء و المثقفين، الذين يحرقهم ألم الغبن، من أقرب المقربين إليهم، ووضع الخطط والمكائد لهم، بعدما وضعوا لبنات الجمهورية العراقية ، يدا بيد، وخطوة بخطوة...
أمثال هؤلاء يموتون بصمت...فهم يكتمون عبراتهم داخل صدورهم، ولا يسمحون لها بالخروج، لئلا يشعر بهم ، من حواليهم، فهم طينة اخرى، ومعدن نفيس....فليس من طبيعتهم إيذاء نملة، فكيف بأحبتهم وأقرب المقربين لهم... يخنقون عذاباتهم في عمق قلوبهم، فيكتوون بلهيبها، ويحترقون بِحَرّها ، وينال منهم الايام، أكثر من غيرهم...
وما يلفت انتباهك...أنك لا تشعر حين الجلوس معه، أنك تجاذب اطراف الحديث مع شيخ ذي ثمانين ربيعاً، بل كأنك مع شاب في مقتبل العمر، من طريقة تبادل الاراء ، فليس هو بالمتجهم المستبد برأيه، الذي يفرض نفسه بحكم ملاقاته غابر الايام و المحن...بل تجده يتقبل رأيك، بابتسامة عريضة، ملؤها الرضا، وباطنه عدم السخط عليك، لذلك تحسن أنك تخاطب شخصا في مثل سنك طري الغصن، لا مع متزمت ، جاحد ، الا لرأيه.
فيا من سالت من اجله العبرات....و ذُرفَت في ذكراه الحسرات، هل لنا من يحل محلك، أو يحمل بعضا من خصالك، أو شيئا من سخائك، وجودك....
ولم يكل قلمه، أو تتعب أنامله، من كتابة ما تجود به قريحته الغضة ، وما زالت ابتسامته ماثلة أمامي، وأنا أقول له ، لا تتوقف يا حضرة الدكتور، أكتب كل ما يجول في خاطرك، وقلبك، كل كلمة، وكل مشاعر نبيلة يحملها قلبك الزاهي....حقا لم يتوقف، فلم يضع قلمه حتى آخر رمق في حياته، كالمحارب ، يقاتل حتى اخر رمق ، فأغنانا بكلماته، وأعطانا بأدبه، ما يعجز عنه الاخرون، ويقفون مشدوهين أمام براعته وقوة منطقه....
أيها الشيخ الابيض الوفي....كنت سببا لاعتلاء الكثيرين مناصب مرموقة...فلم تكن تفكر في ذاتك مثلما كانت يهمك شؤون أصحابك ورفاق دربك الطويل المليء بالاهات والحسرات، فلقد كنت تهيئ مواقع خطاهم، حتى يصلوا الى أعلى المرتبات، وأرفع المناصب، دون أن يلهيك، أن تشغله بنفسك، وتستأثر بخيراتها لمنفعتك، فلقد كنت دائما عفيف النفس، غني الروح والوجدان، عن سفائف الامور الدنيوية، قدر ما يشغلك سمو موهبتك الفذة، و ذكائك المتقد، الذي قلما يمتلكه غيرك، فلقد سطرت ما عجز عنه الاخرون، وألفت ما حار فيه المؤلفون والكتاب الافذاذ...كنت ثروة وطنية، تجافى عنه العراق، فيما كان يستحق كل الاحترام والتبجيل، فيما أمضى أحلى سني عمره متغربا في البلدان  والامصار، في سبيل هذا الوطن، الذي أعطاه الكثير، وأخذ منه أكثر....
أيها الرجل الطيب، مَنْ مثلك كان يتنازل عن حقه ، في سبيل آخرين، كنت تكن في قلبك الكبير مشاعر المودة و الاحترام لهم، وياترى هل كانوا يبادلوك نفس المشاعر، ولكن أمواج عواطفك العالية، كانت أرفع بكثير من احتساب موقفهم تجاهك وتنازلاتك في سبيلهم ، فأمثالك كالشمس، يهبون، من دون أن يأخذوا، ويعطون من دون مقابل...
نَمْ قرير العين يا صديقي ، يا صاحب القلب الندي، فأمثالك يستقبلون الموت ، والابتسامة مرتسمة على شفاههم، فلم يُغِيروا الصدور، أو يُهَيجوا النفوس، بل كان بلسما شافيا لكل من قابله من قريب بمجالسته، أو بعيد مطلع على كتبه، فهدوء نفسه يخييم على صرير أقلامه، وهو يخط أحلى كلمات، بأفصح لسان، عَرَفَهُ إنسان.
 نَم أيها الرجل الطيب، الذي أحببت الكرد، و أحبك الكرد أكثر، لمواقفك النبيلة تجاههم، فلم تبخل بأصغريك ، قلبك ولسانك، عن الدفاع عنهم ، بكل ما أوتيت من قوة بيانك، وصدق حجتك، فمن لهم الان من دونك، يلهج نيابة عنهم، و يبين لغيرهم مواطن الظلم و الغبن تجاههم....نَم قرير العين، فقلوب ثمانين مليون كوردي معك، يدعون من أجلك، في كل بقاع العالم المفرقين فيها جوراً، ورغما عنهم، فلقد أسديت لهم صنيعاً ، قلما يفعله معهم ، مَنْ ليس في قوميتهم، ولا يمت لهم بصلة، ولكن كنت بحرا زاخراً ، ليس لك حدود، وكنت أفقا لا متناه سرمدي،  فهل يطاولك مطاول، أو يصل الى مستواك دَعِيّ.....

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram