لم يعد جسد الكائن معروفاً بتفاصيله الآدمية ، وعناصره المانحة له دلالته المعروفة والمألوفة ، والحافظة كل ما منحته الحياة له من قيم ووظائف . بل ظهر لنا وكأنه مرسوم بيد طفلية ، شغفت بالتشويه وانحراف مظاهره العامة ، القوية ، التي شكلت طاقة الجذب إل
لم يعد جسد الكائن معروفاً بتفاصيله الآدمية ، وعناصره المانحة له دلالته المعروفة والمألوفة ، والحافظة كل ما منحته الحياة له من قيم ووظائف . بل ظهر لنا وكأنه مرسوم بيد طفلية ، شغفت بالتشويه وانحراف مظاهره العامة ، القوية ، التي شكلت طاقة الجذب إليه . وجعلته مركزاً للإثارة ومكنته من الحضور القوي . ومع كل هذا لم يكن الكائن متماثلاً بالخصائص التي ذكرناها ، بل هو متباين ، مختلف متنوع . هو في كل هذه التباينات ، يمثل فاعلية ، لأن الجسد يمنح الكائن حضوره ، ويشحن كينونته بما عرفت عنه من مميزات ، هذه الكينونة وحضوراتها اليومية ، من خلال تفاصيلها الكثيرة ، المثيرة لمواقف عديدة وردود أفعال ، كلها تضاعف جوهره الحياتي . هذا ما ميز الكائن الذكري والأنثوي ، وكل منهما لا يقوى على انتاج ما يجعله مجالاً قوياً وفاعلاً ، إلا إذا أدرك مجاورة الثنائية بينهما وتعايشهما ، كي يعطيا مفهومهما وما تعنيه وحدتهما التي لا تلغي خاصية كل منهما .
كل هذا الجمال في الحياة وما ينتجه من استحضارات ، انحرف تماماً متشوهاً وجعلنا وسط صدمة ليست لحظته ، بل هي عنيفة ، صدمة ماثلة باقية ما دام المجال الاجتماعي والثقافي حاضراً بقوة تشوهاته. تشوه الكائن ، تدمير لكينونته وفشل وسيلتها الكبرى . وهي اللغة ، فالإنسان لم يعد مثلما كان وخسر نهائياً ما كان عليه من صفات الجمالية والشعرية ، وتحول حضوراً مشوهاً ، ملغياً بالكامل من فضاء المقبول اليومي ، من قبل الآخر ، والمثير للغرائبية الذهاب بعيداً من قبل الفنان مكي عمران ، نحو اللعب بالجسد بكل ما توفر لديه من إمكانات فنية ، وظف اللون وعتماته لبث رسائله . وكانت اللوحة الأولى ، ذات طاقة مخفية فعلاً وكأن الفنان ذهب باتجاه كل البشر . ليقول لهم ، هذا ما حصل للإنسان . لا احد يصدق تحولات الكائن نحو التشوه الغرائبي فالمرأة الفاتحة ذراعيها لاحتضان كل ما موجود في العالم ، جسدت تشوهات جسدها ، وكأن الفنان مكي عمران راجي أعاد إنتاج احد أهم المقاطع الشعرية للشاعر اراغون عندما قال : " فتحت ذراعيَّ لاحتضان العالم ، فارتسمت على ظهري علامة الصليب " . لقد ارتسم التشوه كله والخراب وليس الصليب على ظهر المرأة التي بدت وكأنها فزاعة ، أو كائن من عالم آخر ، تشوه كل شيء فيها ، حتى رمزها الخصوبي ، وأضفت عليها ألوان وخربشات طفلية أسئلة ، وهذا أهم ما أفضت به لوحات مكي عمران الذي اتسعت فيها مساحة الاستفهام.
ذهب الفنان بعيداً وعميقاً برسائله ، المنقولة عنا وكذلك بحكاياته عن الكورد المرسلة لنا ، ونحن معاً عشنا نوعاً من الدمار والتشوه بعد الخروج بالصدفة من الموت الجمعي . هذا زمن لا يشبه الأزمنة ، لان الرؤى والآمال التبست فيه ، وما عاد الإنسان قادراً على الحياة بأمان وحرية ، بل هو مطرود من محيطه الذي صار أنقاضا ومحترقات وبقايا كائنات مثيرة للفزع . أعادت خبرة الفنان ومهارته اللونية في ترسيم جسد الكائن وإضفاء التشوهات عليه ، من اجل تعطيل كينونته والدفع به نحو هامش لم يكن منتظراً ، إلا في سرديات الذاكرة الجمعية ، سرديات الغرائب ولا معقوليات الأحلام وجوه كائناته مدمرة ، طافرة ، جعلها ملصقة بآلية زادت التشوهات ، لان الفنان يدرك بشكل جيد ، بأن تشوهات الوجه تعني ضياع هوية الكائن . غادر المألوف والمقبول من قبل الآخر " فالمريض يجب أن يرفض هيئته القديمة ، ويتقبل واقعه الحالي ، تحت أنظار الآخرين الذين يشعرون بأنهم منحصرون وراء هذه الإصابات أو التشوهات " .
قدم لنا مكي عمران رسائله عن الإنسان العراقي ناقصة ، ( وهي أيضا رسائل عن الآدمي في كل مكان ) فالوجه وحده الذي يقدم لنا الإنسان كاملاً وجميلاً ومكتفياً بأهم بمكوناته ، انه دال على معنى كمال الجسد ـ كما قال فرنسوا شيرباز ـ واستعداد لممارسة أفعاله الاتصالية مع الكائن المكون لجنسانية حيوية ، فالوجه مكان المثول والحضور ، وهو خصوصية وفردانية الجسد ، ذلك ما يعيدنا الى حكاية نرسيس المتأمل لوجهه في الماء والذي مات غرقاً بعد أن القى بنفسه في صورته .
المرآة / الماء لا يكشفا لنا الوجه الحقيقي ، لأنهما يتعطلان أحيانا . في لوحات مكي عمران ، الجسد مشوش ، ليس في اللوحة فقط ، بل في الواقع أيضا ، وجوه محترقة ، رؤوس منفصلة ، وضعتها الصدفة في مكان أخر من الجسد . وعندما يكون الجسد مشغولاً بالبحث عن ذاته . ومثل هذه اللوحات الاستفزازية ، تضع المتلقي أمام استهداف حقيقي للإنسان ، لا يتوقف ، وكأن العراق تقاسم حصة الدمار والألم والقتل بالتساوي سرديات الفجيعة لا تكف عن تفاصيلها المتماثلة ، لأنها ذات وحدات واحدة ، متماثلة ، لذا السرد فيه لا يغادر الفضاء المألوف ، وكأن كل الناس عرفت حدوده ، وعاشت تفاصيله المروية ... لان الأحياء رواته باستمرار ، والفروق في السرد أن الكائن مختلف بالنوع ، وحضور الطفولة أكثر وأعمق إثارة ، لان تعطلها ، يعني تغيب المستقبل ، وتوقف حركة الأحلام ... الموت فقط ، هو صاحب الحضور ، الملاحق للكائن ، الطارد له ، موت جمعي وخصوصاً وسط الأطفال ، والأشكال الغريبة للفتيان ، تجعلنا أمام فجيعة لا تغادر ذاكرة المتلقي أبداً .
الجسد في لوحاته يبحث عن ذاته . هذا يعني تغيبه وتهميش حضور الموجود من الأجساد . المهم والمثير في تجربة مكي عمران راجي هو تمركز الجسد وتهميش حضوره ، وتغيبه في كثير من اللوحات، لقد تضاءل دور الجسد ـ ثقافياً ومعرفياً وتلاشت تماماً مقومات كينونته . لان الجسد هو الذات عينها (وتجربته هي تجربة المعيش ، تجربة الوجود في العالم بكل غموضها وترددها وبكل كيفيات التباسها ) .
كتبت في مقالة سابقة عن الفنان مكي عمران واهتمامه بالمحيط والتعامل وإياه رمزياً والكشف عن المدفون في المُعاش ، والعودة للأصول والعتبات الأولى وإعلاء تجوهرات الرموز الأولى ، تمجيداً للمحيط الذي أنتجها لكن معرضه الثالث كان مغايراً تماماً عن معرضه الثاني ، على الرغم من الإبقاء على المحيط ، لكن كان مدمراً مع الكائن .
كنا أكثر اقتراباً مع المحيط في معرضه السابق ، لأنه هادئ وشعري التفاصيل ، ساهم بمنح طاقة الأمل والتفاؤل والعودة الى العتبات الأولى ، ويبدو ذاك المعرض الآن من الترف . لان الموت الجمعي والدمار ، والتغييب القسري عن المكان ، عطل سرديات كانت لها حضور مهم . تمظهرت في لوحات معرض مكي عمران الثالث أساطير وغرائبيات ، لان السرديات التي تضمنتها هذه اللوحات لا تبدو إلا بكونها أساطير أو تصورات عجائبية وتخيلات غير معقولة تماماً .
أخيراً تمكن الفنان مكي عمران وبنجاح من إعادة إنتاج الواقع وتوصيف المحيط ، وتمظهرت كلها عبر الأسطورة والغرائبية . لان المُعاش الآن ، لن يكون إلا هكذا وهذه الأشكال الآدمية المشوهة ، ليست مستدعاة من محيط خارجي ، بل هي نتاج حياتنا وما نعيشه منذ سقوط النظام . الفنان مكي عمران نجح في تمثيلاته للواقع وذهب بعيداً نحو اسطرته.