في الفصل الرابع من رواية كونديرا "كتاب الضحك والنسيان" احتاجت "تامينا" ان تلتقي مع كاتب من الإقليم يدعى "بانكا" ، يشرح هذا الكاتب لها ان الكتّاب الحقيقيين قد تخلوا عن فن الرواية القديم : "اتعلمين ان الرواية هي ثمرة وهمٍ بشري ، وهم إمكان فهم الآخر ، و
في الفصل الرابع من رواية كونديرا "كتاب الضحك والنسيان" احتاجت "تامينا" ان تلتقي مع كاتب من الإقليم يدعى "بانكا" ، يشرح هذا الكاتب لها ان الكتّاب الحقيقيين قد تخلوا عن فن الرواية القديم : "اتعلمين ان الرواية هي ثمرة وهمٍ بشري ، وهم إمكان فهم الآخر ، ولكن ما الذي يعرفه بعضنا عن البعض الآخر ؟ ، كل مايسعنا عمله تقديم تقرير عن أنفسنا وما عدا ذلك كذب" ، ويقول صديق بانكا وهو أستاذ فلسفة : "منذ جيمس جويس أصلا نعلم ان أكبر مغامرة في حياتنا هي غياب المغامرة ، لقد انتقلت أوديسة هوميروس الى الداخل وصارت باطنية ".
في عام 1937 ، وقبل سنة من وفاته ، كان هوسرل يلقي محاضرة حول ديكارت حين سأله أحد الحضور : كيف يرى جذور الأزمة التي تمر بها أوروبا الآن ؟ كان هتلر يعد العدّة لحرب جديدة ، صمت الفيلسوف الالماني قليلا ، ثم قال لمحدثه : أنصحك أن تقرأ سيرفانتس ، ربما تجد الإجابة في ثنايا حوارات دون كيشوت . كان هوسرل قد تحاور من قبل مع تلميذه هيدجر حول الفلسفة والادب ، وكان التلميذ يعتقد ان الفلسفة والعلوم قد نسيا كينونة الانسان ، وان هذه الكينونة انما تم الكشف عنها وإضاءتها بواسطة اربعة قرون من الرواية الأوروبية ، يكتب هيدجر في احدى رسائله الى حنّة آرندت : اكتشفت الرواية بطريقتها الخاصة وبمنطقها الخاص مختلف جوانب الوجود وتساءلت منذ سيرفانتس عما هي المغامرة ، وبدأت مع بلزاك في اكتشاف تجذر الانسان في التاريخ ، وسبرت مع فلوبير ارضا كانت مجهولة ، وعكفت مع دستويفسكي على التدخل اللاعقلاني في السلوك البشري ، انها تستقصي الزمن ، اللحظة الماضية التي لايمكن القبض عليها مع مارسيل بروست ، واللحظة الحاضرة التي لايمكن القبض عليها ، وتستجوب مع توماس مان دور الأساطير الآتية من أعماق الزمن لتتبع خطانا ".
************
أصيبت الزوجة باضطراب عصبي حين علمت ان زوجها ،غريب الأطوار، قرر ان ينشر على الملأ سيرته الذاتية، والتي أراد ان يكشف فيها بؤس طفولته، ويفصح عن تعاسة أيام صباه وشبابه.
وبعد الحاح طويل تمكنت من إقناعه بعدم نشرها، وتراجع الروائي عن نشر سيرته، ولكنه سرعان ما قدمها لنا في واحدة من اجمل رواياته "ديفيد كوبر فيلد"، التي نشرها عام 1850 وصارت إحدى أعظم كلاسيكيات الأدب.
يقول لكاتب سيرته : ما الذي ستكتبه عن رجل اسمه تشارلز ديكنز ، وهو عبارة عن سلسلة من كلمات عادية لم استطع قط ان أربطها بنفسي.ولدت في احدى ضواحي لندن الفقيرة وما أزال غير آسف على ذلك.انني كاتب لكني أشعر أحيانا أنها مهنة العاجزين ، ان كوني كاتباً من الكتاب ليس سوى إنجاز استثنائي لأنني رديء جدا في الكتابة، وعلي ان اخضع نفسي لانضباط بشع كي أنجز كتابة صفحة واحدة.. أنني أناضل جسدياً مع كل كلمة، لكن الكلمة هي التي تفوز في الغالب .
كان يتمنى ان يكتب بنفسه سيرته الذاتية التي قدمها في العديد من رواياته مثل : قصة مدينتين، اوليفر تويست، دوريت الصغيرة، الأمال الكبيرة.
وقد قامت هذه الروايات ببناء عالم مدهش وساخر لكنه في معظم الأحيان ينوء بالأسى والآلام.
يقول احد كتّاب سيرته : "ان ديكنز استطاع بفنّه الفائق الروعة ان يظهر للبشرية جمعاء ما يميز البسطاء من البشر" .
البسطاء هم المفتاح السحري الذي دخل به ديكنز الى قلوب قرائه بروايات لم يشحب بريقها الأدبي، ولم تخفت تجلياتها الفكرية.. فماتزال تعانق الزمن الراهن، وتشتبك مع أزماته، وهذا ما يؤكده مؤرخ بريطاني هو ترتسترام هنت الذي يشير إلى أن رواية "دوريت الصغيرة" التي نشرها عام 1857، وفضح فيها مثالب النظام الرأسمالي، تكشف أسباب أزمة النظام المالي العالمي عام 2008.
"دوريت الصغيرة" أثارت انتباه "برنارد شو" عندما قرأها، وأطال التأمل في أجوائها، وقال انها من أهم روايات القرن التاسع عشر في انتقادها للرأسمالية.
"دوريت الصغيرة" فصل آخر من سيرة حياة هذا الروائي. الذي كان هو وأسرته يهربون تحت جنح الظلام من مكان الى آخر فراراً من الدائنين، واضطر تشارلز للعمل في مصنع وهو في الثانية عشرة من عمره، بينما زجت السلطات بوالده في السجن لتعثّره في سداد ديونه. ولم يفلت من مصيدة الفقر والتشرد إلا في نحو العشرين حين ساقته دروب الحياة الى عالم حافل بالخيال ليقدم أول أعماله الروائية "مذكرات بكوك" فيتلقى بسببها رسالة من دار النشر يخبرونه فيها انه ليس لديه أي مستقبل في كتابة الرواية، مقترحين عليه أن يبحث عن مهنة أخرى.
المهنة الاخرى كانت الإصرار على الكتابة ليقدم في النهاية عالماً، هو مزيج من السيرة الذاتية والخيال الجامح، يتداخلان ويتشابكان في أبعاد مختلفة.
************
يكتب ميلان كونديرا : "يجري الحديث كثيرا ومنذ وقت طويل عن نهاية الرواية ، ولاسيما على ألسنة المستقبليين والسرياليين وكل الطليعيين ، كانوا يرون ان الرواية تختفي على طريق التقدم لصالح مستقبل مختلف جذريا ، لصالح فن لايشبه ما كان وجودا قبله . وستدفن الرواية باسم العدالة التاريخية ، تماما كالبؤس والطبقات المهيمنة والنماذج العتيقة من السيارات والقبعات ذات الشكل العالي ..لكنني ساقول لهم : اذا كان وجود الرواية يقوم على جعل عالم الحياة تحت إنارة مستمرة ، وعلى حمايتنا ضد نسيان الكائن ، أولا يغدو وجود الرواية اليوم اشد ضرورة من اي وقت مضى " .
يضع كل منا شيئاً من نفسه في بطل الرواية التي يقرأها ، لكن دون كيشوت يضع في كل منا بذرة المغامرة ، لا يهم ان الشر يتمشى متبخترا ، وان اليأس من اصلاح الدنيا يتملكنا في كثير من الاحيان ، وان الانتصار على طواحين الهواء عبث غير مبرر ، لكن النصر سيكون حتما لأصحاب النوايا الحسنة حتى وان تم تصويرهم على انهم مجانين ، مثل الفارس "من لامانشا. "
على غرار دون كيشوت ينضم ميلان كونديرا عام 1948 الى الحزب الشيوعي ، كان متحمساً وصادقاً في نواياه ، لكن الحزب لم ير فيه الشيوعي التلقيدي الذي يطرد قناعاته الشخصية لصالح الآيديولوجية ، غادر مدينته المحببة براغ ، بعد منع كتبه من النشر ، لكنه رفض ان يتخلى عن الكتابة بالتشيكية رغم ان جنسيته سحبت منه بسبب "كتاب الضحك والنسيان" . في روايته "الحياة في مكان اخر" يسخر من الحماسة الثورية التي تلغي شخصية الفرد ،عنما هاجر الى فرنسا كانت "محاكمة" كافكا من الكتب التي حملها معه في طريق الاغتراب ، عنما سأله الناقد الأدبي لصحيفة اللوموند الفرنسية عن روايتة "خفة الكائن التي لاتحتمل" قال : إنه كان كمن يمسك سطلاً تحت شلال حين كتبها، وإن الكلمات أتت من تلقاء نفسها ، للمرة الاولى اكتشف ان الرواية تتحول الى شخص اخر يشاكسني".
************
يستيقظ " ك " صباحا ، يرن جرس البيت وهو لا يزال في سريره ليحمل له طعام الفطور ، وبدلاً من الخادمة يصل مجهولون ، بشر عاديون يرتدون ثيابا عادية ، لكنهم يتصرفون على الفور بسيادة تبلغ حدا ان " ك " لايستطيع ان لايشعر بقوتهم وسلطتهم ، فهو على الرغم من انزعاجه غير قادر اذن على طردهم ويطلب منهم بتهذيب : "من انتم"؟
بخلاف أورسون ويلز ، كان معظم مفسري محاكمة كافكا يعتبرون " ك " مذنبا يحاول ان يقدم أدلة براءته .. لكن اورسون ويلز وهو يكتب سيناريو للرواية التي سيقدمها للسينما مستبدلا "جوزيف ك" بـ "أنتوني بيركنز" كان يريد ان يقول ان الرواية هي المحاكمة التي أقامها كافكا لنفسه باعتبار ان "ك" ليس الا مثيله" .
كانت "المحاكمة" التي رافقتني من براغ الى باريس أفضل معلّم أدب عرفته، هكذا يقول كونديرا في كتابه "الوصايا المغدورة" : "قد فتحت عيني على العظمة التي تستطيع الرواية بلوغها، يعلّمنا كافكا كيف نحب أنفسنا حتى حين نقسو عليها، وكيف نبقى إنسانيين في وجه أبشع الحقائق عنها ".
يقول لكاتب سيرته : لا أرى نفسي حِرفيّا .. لكني اشعر انني عضو في جماعة كبيرة افتراضية تجمعني بأعضائها الآخرين الذين رحل معظمهم علاقات دينامية ، ارغب في أن يزداد القراء الذين يقدّرون مجد الرواية ، ولا أبالي ما إذا كان القارئ يحب ان يقارنني بجويس ام فوكنر ، لا ريد أن اكون هذا الكاتب أو ذاك..فقط اتمنى ان احظى بلقاء المواطن " ك " .
************
رفض صاحب دار النشر التشيكية مخطوطة "غراميات مرحة" قائلا لصاحب الكتاب : قد اكون قارئا سيئا وتفكيري محدود ، لكنني لا استطيع فهم كيف ان شخصا يكتب خمسين صفحة لكي يصف لنا ان بطل قصته يعاني من آلام في المرارة ، لكنه مشغول البال بدموع زوجته .
يكتب كونديرا :"بعد نشري لكتابي الاول هذا اخبرني الكثير من القراء انهم اكتشفوا ان الدكتور هافل موجود بينهم وهم يلتقون به في الطرقات والمترو ومقاهي الرصيف" . ويضيف صاحب "الضحك والنسيان" ان دراسته للموسيقا والسينما مكنته من ان يتناول الموضوعات الاكثر قتامة بأسلوب هزلي ، من "خفة الكائن" الى "الحياة في مكان اخر" مرورا بـ"المزحة والجهل" ، ظلّت الفكاهة سمة مميزة لكتاباته ، وهو يقول لمحاوره كريستيان سالمون : ان التسلية والإمتاع كانت وسيلته لتمرير أفكار يعتقد بها، فهو يعتقد ان الرواية يجب ان تجمع بين المعنى الجادّ والأسلوب المُسلّي، على غرار ما قدّم تشارلز ديكنز في رائعته "أوقات عصيبة" .
يصل لودفيك بطل "مزحة" الى مدينته الاولى التي يعيش بعيدا عنها منذ خمسة عشر عاماً ليجد نفسه يسترجع لحظة القبض عليه اول مرة بتهمة الخيانة العظمى والسخرية من الحزب والدولة ، كانت رسالة غرامية هي التي أحدثت زلزالا في حياته ، ففي لحظة مرح كتب لحبيبته ماركريتا : "التفاؤل أفيون الشعب. العقل السليم يُعفّنه الغباء. عاش تروتسكي." وقريبا من أجواء محاكة كافكا يجد بطل كونديرا نفسه محاصرا بثلاثة محققين
الاول: أنت ترى أنّ الأفيون هو تفاؤلنا. لقد كتبت ذلك إلى ماركيتا.
الثاني: كم أودّ أن أعرف ماذا سيكون ردّ فعل عمّالنا من الصدمة التي تفوق كلّ تصوّر إن علموا بأنّ تفاؤلهم أفيون.
الثالث: بالنسبة إلى التروتسكيين، لم يكن التفاؤل البنّاء دوماً إلاّ أفيوناً، وواضح أنك تروتسكيّ.
أجاب محتجاً : من أين جئتم بهذا الحكم؟ تعلمون انني حزبي أصيل لكني في الوقت نفسه، شخصية مرحة تميل تلقائياً إلى الدعابة والهزل.
************
كان تشارلز ديكنز قد بلغ الخامسة والاربعين ، وكان اشهر مؤلف في بريطانيا ، كذلك اشتهر باعتباره مصلحاً اجتماعياً ، اهتم بجمع التبرعات وتأسيس مركز لبنات الهوى المعتزلات ، كتب اكثر من اربعين الف صفحة من الادب ، وعمل رئيس تحرير ، وحرّض على إصلاح السياسة والسجون والصحة والإسكان ، ارغب في إنجاب ثلاثة أطفال فقط، لكنه لم يهتم بمعرفة طرق منع الحمل فانتهى بعشرة، رافقته زوجته في رحلته الى اميركا حيث تجمع المعجبون أمام الباخرة التي أقلته ليلتقطوا خيوطاً من فرو معطفه، وحدّق فيه الأميركيون بطريقة أحس معها أنهم رأوا انسانا غريب الأطوار . كتب اكثر من مقالة على ضرورة الإصلاح الأسري ، لكنه هام عشقا بشقيقة زوجته ، وكان يطاردها بين غرف المنزل ليحصل منها على قبلة ، هامت ابنة السادسة عشرة بصهرها الشهير، وحين توفيت بعد عام لسبب مجهول وضع خاتمها في إصبعه طوال حياته، وأوصى بدفنه قربها. بعدها عشق احدى ممثلات رواياته وكانت في السابعة عشرة من عمرها وهو في الخامسة والأربعين، انفصل عن زوجته التي كان يتهمها بالثرثرة وحب الطعام. في عام 1862 يتلقى رسالة من معجب روسي يتابع مصائر ابطال رواياته ويسأله عن الأشرار في رواياته فيجيبه انهم يمثلونه ، فقد كان هناك شخصان داخله ... واحد يشعر بما يجب أن يشعر به وآخر يحس بالعكس تماماً. كان الروسي صاحب الرسالة، ديكنز هو الروائي العظيم فيدور دستويفسكي الذي كتب في يومياته : "يتمتع بقدرة فريدة على تصوير الوضع البشري" . احتل سبعة من ابطال رواياته المراتب الاولى في استفتاء البي بي سي ، وماتزال "كوبر فيلد" و"الآمال الكبيرة" الروايتين اللتين تتصدران قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في بريطانيا.
رفض في آخر أيامه التكريم الملكي وأوصى بعدم إقامة قداس كنائسي لجنازته ، وذكرت صحيفة "ذا تايمز" يومها أن عائلته اصرت على تنفيذ وصيته فغاب الترتيل والترنيم ورافق أربعة عشر شخصاً فقط الجثمان حين ووري التراب. لكن الكنيسة قررت وبدافع غضب الشعب ان تفتح القبر لإتاحة فرصة الوداع لمئات الآلاف من المواطنين الذين توافدوا من معظم المدن البريطانية لإلقاء النظرة الاخيرة على كاتبهم المحبوب.