عادة لا تهمني المسافات ولا الوقت في متابعة المعارض الجميلة والمهمة، وأحاول أن أتابع ما يجري حتى لو كان ذلك في مدن بعيدة جداً. أسعى بكل تأكيد لمشاهدة المعارض التي تعرض هنا وهناك والاطلاع عليها لأستعيد حقبة مهمة من الفن التشكيلي هنا ومفترق طرق في الإبداع هناك. وحين افتتح مثلاً هذا الاسبوع معرضاً لأعمال فنية تعود للمدرسة الدادائية، كان ذلك يوماً جميلاً وخاصاً بالنسبة لي، إنه أمر مشوق بالتأكيد، لأهمية الدادائية في تاريخ الرسم بشكل خاص والإبداع بشكل عام، هذه المدرسة التي لم تبق سوى سنتين وتفرط عقدها، لكنها مع ذلك أثرت على قرن كامل من الثقافة والإبداع وكل ماله علاقة بالتجديد والجرأة وزراعة أرض لم يحرثها أحد من قبل. وهاهي المناسبة المهمة تأتي بافتتاح هذا المعرض الذي يقام بمناسبة مرور مئة سنة على ظهور الدادائية ومدى تأثيرها على كل ثقافة وإبداع القرن العشرين، بل زحف هذا التأثير ليصل الى يومنا هذا. الجميل في هذا المعرض هو أني لم أشغل نفسي بالوقت ولا بطول الطريق الذي سأقطعه لمشاهدة الأعمال، لأن مكان المعرض يبعد بكل بساطة خمس دقائق عن بيتي. قطعت المسافة مشياً نحو متحف دراختن حيث يقام المعرض الذي احتوى على أعمال الكثير من فناني الدادائية الكبار، يالها من مناسبة تحمل جاذبية من نوع خاص وتشويق لا يحتمل التأجيل.
دخلت المتحف واتجهت الى مكان بيع التذاكر، وهناك استقبلتي امرأة بابتسامة عريضة ووجه مريح وهي ترد على تحيتي وتقول، أنا أعرفك، لقد زرت مرسمك ذات مرة، فأجبتها، هذا جميل، شكراً لأنك تتذكرين ذلك، بعد لحظات اخذت منها بعض المطبوعات المتعلقة بالمعرض ودخلت للمشاهدة. كانت لوحة "الراقصة" للفنان هانز آرب أول من استقبلني، بألوانها التي يطغي عليها الأزرق والأحمر مع بعض الألوان الداكنة، وكأن هذه الراقصة تدعوني لمشاهدة المعرض والغوص في تفاصيلة. وهكذا تنساب الأعمال الجميلة أمامي، مثل تخطيطات كارلو كارا التي تقترب من الغرافيك ويظهر فيها بشكل واضح تأثير الفنان دي جيريكو، ثم تخطيطات للفنان والشاعر تريستان تازارا المكتظة بالأشخاص والوجوه ذات التعبيرات المختلفة التي تتخللها أيضاً شخصيات حيوانية أو خرافية. وفي جانب آخر من المعرض عرضت مجموعة كبيرة من المطبوعات والأفيشات التي كان الدادائيون يستعملونها للدعاية لمعارضهم أو أمسياتهم الثقافية التي كانوا يقيمونها عادة في المقاهي، وفي الجهة المواجهة تُعرض صور لبعض قصائد الشعراء الذين ينتمون الى هذه المدرسة، والتي كتبوها بطرق غريبة ومختلفة. أسترسل مع أعمال المعرض لأصل الى أعمال العبقري متعدد المواهب مان راي الذي عرضت له هنا أعمال عديدة مثل عمله الذي يمثل مكواة حديدية ثبّتَت على جهتها التي تلامس الملابس مجموعة من المسامير، وكذلك عمله النحتي الذي يمثل الماركيز دي ساد (الذي اشتق فرويد من اسمه تسمية السادية) وكذلك عمله (نابض الوقت) الذي استعمل فيه مجموعة من الأسلاك اللولبية. وهكذا يتواصل عرض أعمال أخرى لعباقرة كبار مثل مارسل دوشامب وفرانسيس بيكابيا وجورج غروز وبول سترون وغيرهم الكثير.
تأسست الدادائية في مدينة زيورخ السويسرية واختار لها هذا الاسم الشاعر والفنان الروماني تزارا حين طلب من زوجته أن تضع اصبعها بسرعة على أول كلمة تراها حين يفتح القاموس الفرنسي الألماني، وحين فتح القاموس، وضعت سبابتها على اول كلمة رأتها، وكانت كلمة دادا، ومعناها (حصان خشبي يلعب به الأطفال) وهكذا سميت هذه المجموعة واتجاههم الجديد بالدادائية، والتي ضمت الكثير من المبدعين المؤسسين أو الذين انضموا اليهم فيما بعد أمثال تزارا وكارا ودوشامب ومان راي وبيكابيا وغيرهم الكثير. في 14 تموز قرأ تزارا البيان الأول للمجموعة في كاباريه فولتير، وبعد فترة أغلق الكاباريه ليتوزع أفراد الجماعة في أوروبا وحتى أمريكا لتنشر أفكار الدادائية في كل مكان تقريباً، والى هذه اللحظة.
الدادائية قرب بيتي
[post-views]
نشر في: 13 مايو, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...