2-2
رجل الوسطية والحوار وإطلاق الأسئلة
صادق مع الناس وذاتهولأن السيد هاني فحص, صادق مع نفسه, يدوّن حتى ساعات الضعف الإنساني, والإنسان مخلوق ضعيف (وخلق الإنسانُ ضعيفاً) فإنه يحدثنا عن حالات هذا الضعف, فهو من الذين يحاولون إعطاء المرأة حقوقها, وينادو
2-2
رجل الوسطية والحوار وإطلاق الأسئلة
صادق مع الناس وذاته
ولأن السيد هاني فحص, صادق مع نفسه, يدوّن حتى ساعات الضعف الإنساني, والإنسان مخلوق ضعيف (وخلق الإنسانُ ضعيفاً) فإنه يحدثنا عن حالات هذا الضعف, فهو من الذين يحاولون إعطاء المرأة حقوقها, وينادون, لكنه إذ يدعى إلى ندوة بشأن المرأة, تدعوه اليها جمعية نسائية في النبطية يذهب وحده , من غير ان يصطحب معه زوجته السيدة نادية علي علو (ام حسن) ابنة العائلة الدينية المعروفة آل الزين, التي تولت الوعظ الديني والإرشاد في تلك المنطقة سنوات طوال , يقول الأستاذ فحص: (( وعندما لاحظت إحدى السيدات غياب زوجتي, سألتني عن السبب فلم أقل شيئاً حتى لا أكذب, ولكن السيدة السائلة ابتسمت ابتسامة ذات معنى ولاذت بالصمت فلذت بالصمت مثلها )).ص17.
ويتكرر الحال , هو يعترف بضعفه الإنساني, على الرغم من المكابرين الذي يدعون إلى حرية المرأة – كما دعا الزهاوي ابنة فهر إلى ترك الحجاب!, في حين إذا اصطحب ضيفاً أو جاءه ضيف, نادى على زوجته ان تخلي حوش الدار نحو غرفتها!. وما أظن قاسم أمين إلا مثل الزهاوي, هو الذي صَدَّع رؤوسنا بدعواته لـ (حرية المرأة).
لكن هاني فحص يعترف بضعفه, فاذ تدعوه جمعية نسائية في النبطية – كذلك – أكثر عضواتها يعرفن زوجته (أم حسن) تدعوه إلى ندوة بشأن عاشوراء, حصار الحزن. فيذهب وحده – كذلك – ((وعندما سألتني السيدة سلمى علي أحمد رئيسة الجمعية عن أم حسن, أدركني الحرج, وتلعثمت فسكتت رحمة بي, وحاولت العلاج فكلفت الحاج عبد الحليم عطوي بالعودة إلى قريتي لدعوة أم حسن إلى الندوة, ولكنها تمسكت برفضها ان يكون حضورها منّة مني عليها. وحتى الآن مازلت أعيش سلبية هذا التصرف, فإذا تحدثت عن المرأة في المقابلات التلفزيونية أو الصحافية, أو كتبتُ عن المرأة, أظل حريصاً بالإضافة إلى الإرباك الذي يداهمني, أظل حريصاً على ان لا تسمع زوجتي أو تقرأ ما أقول حتى لا تذكرني وتروي لضيوفي ما حدث لها سابقاً, وتلزمني بالتزام الأعذار التي لا يقبلها أحد ولا أنا))تراجع ص17.
ويحدثنا هاني فحص عن أيام الزمن الجميل, قبل ان يضرب العصف الوبيل مجتمعاتنا العربية, حيث المحبة والتعايش والتآخي بين الأديان والمذاهب, كنا نقيم علاقاتنا مع القريب إلى نفوسنا خلقاً وعفةً غير سائلين عن أموره الخاصة مع ربه, فالله يفصل بيننا يوم القيامة كما يقول قرآننا الكريم, يحدثنا عن المدرسة الجعفرية التي اسسها السيد عبد الحسين شرف الدين عام 1938في مدينة صور, وكان جهازها يضم عدداً من الأساتذة المسيحيين, منهم: متري الحلاج وجورج خوري, وجورج كنعان, وإذ تحدت النكبة سنة 1948, فان الإمام شرف الدين, يخلي طلابها ويفتح أبواب المدرسة والمسجد للنازحين الفلسطينيين, مسلمين ومسيحيين, حتى ان المسيحيين منهم يبنون – في وقت لاحق – كنيسة لهم في منطقة (البص) تراجع ص140.
رحابة صدر المجتمع
وهذا الأستاذ مارون الحاج, المسيحي الماروني, يأتي للتعليم في مدرسة القرية , ولم يعتم حتى أصبح مارون الحاج مستشار الضيعة في كل شيء, حتى ان مختار القرية عبد الغفار حرب, يجعل ابنه (حسيناً) رفيقاً دائماً لمارون الحاج, الذي كان تلاميذه ومنهم هاني فحص يحرصون على تفاديه, أو تلافي مواجهته في شوارع القرية هيبةً, فيغيرون طريقهم, فإن لم يكن هناك مفر تجمدوا في أماكنهم حتى يمر. تراجع ص126-127.
ويوم يذهب هاني فحص في سنوات تلت إلى بيروت لزيارة صديقه الكاثوليكي الأستاذ حنا الناشف, وإذ لم يجده يقرر العودة, مع رجاء إيصال تحياته إليه, لكن حماة الأستاذ حنا, تقدمت نحو باب السيارة وفتحته قائلة: لا... تفضل, أنت بركة والشباب يأتون, وأرسلت في طلبهم, ونحن داخلان إلى المنزل سألها حفيدها الصغير: ستي هذا الأبونا؟ قالت: لا. هذا أحسن وعذرتها ومالبث ان جاء حنا وزوجته والأولاد ليكتشف ان القرآن ونهج البلاغة متداولان في المنزل. تراجع ص 136.
الحفيد الصغير, وقد ارتسم في ذهنه الغض مشهد رجل الدين المسيحي يتشح بالسواد, وهو اللباس ذاته الذي يتشح به السيد هاني فظنه أبونا؟! ولكن جدته توضح الأمر له.
ولأن دين الإنسان لا يعني شيئاً لهاني فحص, فقد حدثت التباسات وإحراجات طريفة, يحصل ان يناقش مع صديقه الفتحاوي الفلسطيني نبيل صالح سلوك الكنيسة الارثوذكسية التفريطي بالأوقاف في القدس والضفة الغربية ولصالح إسرائيل, لكن الذي جلب انتباه السيد هاني, دقة الأرقام والتواريخ التي يوردها صديقه الفلسطيني نبيل صالح, مركزاً على ضرورة التفريق بين الاكليروس العربي واليوناني في هذه القضية, ويقفز إلى ذهنه سؤال: من أين لك هذه المعرفة التفصيلية؟ فابتسم .. احمر وجهه, وقال: أنا ارثوذكسي يا سيد.. صديقي نبيل صالح الأسمر الطويل, بعد عشرين سنة عرفت انه ارثوذكسي!
ولطالما ذكرت بأنه صديقي التركي الإسلامي, وبعد عدة لقاءات وحوارات معه حول الوحدة الإسلامية انفجر وقال أمام أصدقاء مشتركين: يا سيد حيرتني وأتعبتني .. مرة أخرج من الاجتماع مقتنعاً انك شيعي, وفي الاجتماع الثاني اتيقن انك سني! وأخشى أن تكون مسيحياً!))ص219.
وكما وقع حفيد الأستاذ حنا الناشف, وقد كان يرى رجال الدين المسيحي المسربلين بالسواد, فظن السيد هاني المتسربل هو الآخر بالسواد, والعمة السوداء, شعار السادة من آل البيت الكرام, أقول كما وقع الحفيد في الوهم والالتباس فوصف السيد بـ (الأبونا) فإن عريف الحفل الذي أقامته كلية الحقوق بالجامعة اللبنانية في شهر آذار من عام 1975, احتفاء بمواقف مطران القدس هيلاريون كبوجي, المعتقل في الأرض المحتلة, يقع في اللبس ذاته, تكلم في الحفل عدد من الشخصيات منهم: المطران غريغوار حداد والأب حليم ريشا, وشفيق الحوت, ثم السيد هاني, وهنا قال عريف الحفل الأستاذ بشير عميرة: بناءً على طلب الجمهور فان كلمة (الأسقف) هاني فحص سوف تطبع وتوزع عليكم. اشتعلت القاعة بالتصفيق أمام ذهول بشير عميرة الذي لم يكن يدري ماذا فعل من خطأ أجمل من الصواب, وكان في القاعة عشرات الرهبان والراهبات والتقطها الأستاذ شفيق الحوت وكتب حول معنى هذا الخطأ الصحيح في جريدة (المحرر) ص139.
ولأنني وغير ما كنا نعرف – أو لا يهمنا ان نعرف – مسيحية الأديب المصري الكبير وديع فلسطين, أو الأديب السوري فؤاد الشايب أو شهيد القضية الفلسطينية غسان كنفاني وغيرهم. إلا بعد استشهاد غسان ووفاة الشايب , أمد الله في عمر وديع فلسطين, الأستاذ زهير الشاويش يعلن في ندوة أقامها نادي (بيان) في بيروت دعي اليها السيد هاني فحص ولعلها أقيمت لتكريمه, وهاني - لتواضعه المستمكن من ذاته – يقول انه دعي اليها فقط؟! الشيخ الموقر زهير الشاويش يقول في الندوة: كنت أقرأ لهاني فحص, وبعد فترة فوجئت بأنه مسلم, ثم فوجئت بأنه شيعي, ثم فوجئت بأنه سيد, ثم فوجئت بأنه معمم, ثم فوجئت بان اسماء بعض بناته هي اسماء بعض بناتي... فاجأني ان رجل دين يتحدث عن زوجته وبناته من دون تردد... تراجع ص220.
يداوي جراحات السياسة بالكتابة
ولأنه كما قلت في صدر حديثي هذا – كان رجل الوسطية والحوار, وإطلاق السؤال تلو السؤال, بشأن قضايا الحياة, ولأنه كان بيوريتانيا متطهراً بالغ التطهر والنقاء والصفاء, فلقد صدمته تجارب الحياة وحوادثها – كما صدمتنا-, ولاسيما في عالم السياسة, عالم الممكن, هو الباحث عن عالم الوجوب, وأخذ النفس بالشدة, فتفجعه انتهازية هذا الذي هاجم التظاهرات ضد الشاه, الذي أمسى قائداً بعد سقوط الشاه, ويؤذيه هذا الذي يتحدث عن العلاقة بين فلسطين الثورة, وايران الثورة, عاداً ذلك شأناً خاصاً بهما, فما شأنك انت به, وأنت اللبناني؟! قائلاً له هذا شأن إيراني, وأنت لبناني..ص316.
تبكيه قطرية الإيراني, وهو الذاهب نحو العالمية, فيعود إلى عروبته إلى جنوبه إلى جبشيت, هو الذي رأى تهاوي كل النظريات وان الأقوال بعيدة عن الأفعال, يحطمها هذا الإنسان النزاع نحو الهوى, هوى النفس, التي إن لم تكبح فعلت الأفاعيل, فظل يداوي جراحات الروح, بالقراءة والكتابة, هو الذي تاق ان يكون روائياً لكن وجد الكتابة الروائية, مما لا تأتلف مع وضع رجل دين مثله, لأن الرواية حياة, ولعلها انفلات في بعض صوره أو صورها, وهو لا يرتضي هذا لنفسه, وقديماً وصف الشعر بأنه مزرٍ, إنه بالعلماء يزري كما يقول الإمام الشافعي محمد بن إدريس بن شافع ولاسيما برجال مثل هاني فحص, فتوجه إلى الكتابة , ليقدم لنا(أوراق من دفتر الولد العاملي) و(مشروعات أسئلة).
هو الذي ظل يطلق أسئلته سواء أوجد جواباً أم لم يجد, وأظنه لم يجد جواباً لكثير من اسئلته, فالدنيا حيص بيص!