على شفا انهيار مالي واقتصادي تقف دولتنا الآن .. هذه هي الحقيقة المُرّة والموجعة، وأي كلام آخر مناقض أو مخالف هو محض تضليل. ولتفادي الانهيار لم تجد الحكومة مناصاً من اللجوء إلى الهيئات المالية الدولية الكبرى للحصول منها على قروض مليارية تُلبّي احتياجات مُلحّة، منها رواتب الموظفين وتمويل الحرب ضد الإرهاب.
الجهود المضنية التي بذلتها الحكومة في هذا الاتجاه يُمكن أن تؤتي ثمارها عمّا قريب، فثمة موافقة مبدئية من صندوق النقد الدولي على إقراضنا 16 مليار دولار. بعد الصندوق ستكون لنا وقفة مماثلة على أبواب البنك الدولي، سيقول فيها وفدنا المفاوض لإدارة البنك ما قاله لإدارة الصندوق من قبل: "لله يا محسنين".
الصندوق والبنك ليسا جمعيتين خيريتين، ولا هما حكومتان لدولتين تتمتع دولتنا معهما بعلاقات طيبة للغاية كيما نتطلع إلى تخفيف الشروط الملازمة لمنح القروض. إنهما بنكان للإقراض المالي .. هذا هو شغلهما الذي يحققانِ منه أرباحاً طائلة تذهب الى الدول المساهمة فيهما.
مثلما تفرض البنوك العادية في مشارق الأرض ومغاربها شروطها على المقترضين منها، فإن الصندوق والبنك لديهما شروطهما التي يتعيّن على الحكومات المقترضة أن تقبل بها، وإلا .. "يفتح الله".
من الشروط الأساس لهاتين المؤسستين أن يكون لهما إشراف على أوجه الإنفاق لقروضهما وعلى إدارة المشاريع التي ستُستَثمر فيها الأموال المُقترضة. هذه العملية تُعدُّ من زاوية نظر معينة "انتقاصاً من السيادة الوطنية"، كما يعلن بعض خبرائنا الاقتصاديين والماليين الآن تعليقاً على المفاوضات التي يُجريها وفد حكومي في العاصمة الأردنية عمّان مع وفد من صندوق النقد.
أظنّ أنها أُطروحة غير رصينة، فشروط الإقراض لدى صندوق النقد والبنك الدولي عامة شاملة، لا تتخصّص بدولة دون غيرها، لكنّها عادة ما تكون مُشدّدة مع الدول والحكومات منقوصة الثقة، ودولتنا وحكومتنا منقوصتا الثقة منّا نحن رعاياهما – وهذه حقيقة مُرّة وموجعة أخرى - فكيف لا تكونان كذلك دولياً؟
أظن أيضاً أنّ لنا مصلحة حقيقية في أن يتشدد الصندوق والبنك في شروطهما معنا، فلقد ترسّخت وتصلّدت تقاليد الفساد الإداري والمالي في دولتنا، وإذا ما تساهلت الهيئات المالية الدولية معنا، فإن الجهاز البيروقراطي في دولتنا سيتعامل مع قروضها المليارية بوصفها مالاً سائباً، تماماً مثلما فعل مع مئات المليارات من العوائد النفطية التي تدفقت على الحكومتين السابقتين (برئاسة نوري المالكي)، وهو السرّ الكامن وراء أن تصبح دولتنا اليوم على شفا الانهيار، وأن تضطرّ لتقف في طابور الدول الفقيرة المُتربّص على أبواب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي طمعاً في "إحسانهما".
الفساد ينتقص من السيادة الوطنية أكثر من شروط صندوق النقد والبنك الدولي .. إنه مكّنَ داعش من احتلال ثلث مساحة البلاد والزجّ بنحو أربعة ملايين عراقي في محنة رهيبة لم تنقطع، وهو يتسبّب يومياً في مقتل العشرات وإصابة المئات وتدمير ممتلكات لا تُقدَّر
بثمن.
مَنْ ينتقص من سيادتنا الوطنية؟
[post-views]
نشر في: 17 مايو, 2016: 06:22 م