على مدار الكرة الأرضية وفي كل بلدانها تقريباً، غدا اليوم عرفاً راسخاً وتقليداً محترماً أن يستقيل المسؤول السياسي أو الإداري الكبير عند أول إخفاق كبير له. في هذا تحقيقٌ للكرامة الشخصية ولكرامة المنصب الذي يتولّاه المسؤول، وتوكيدٌ للشعور الوطني.
في البلدان الديمقراطية لا أحد مُستثنى من هذا، مهما كان أصله وفصله وموقعه ومكانته، حتى لو كان من الأبطال الوطنيين أصحاب المآثر العظمى. وشارل ديغول ليس المثال الفريد من نوعه وجنسه، لكنّه من أبرز النماذج.
الجنرال ديغول المولود قبل 125 سنة والمتوفّى قبل 45 سنة، عدا عن كونه أول رئيس لفرنسا في عهد الجمهورية الخامسة (1958)، كان قائداً عسكرياً مرموقاً وزعيماً وطنياً عظيماً، فقد قاد المقاومة الوطنية المناهضة للاحتلال النازي، وترأس حكومة فرنسا الحرّة التي تشكلت في لندن (حزيران 1944)، وحقَّق الانتصار على الجيش النازي المحتل، فكافأه الشعب الفرنسي بأن انتخبه مرّتين متتاليتين رئيساً للجمهورية الخامسة التي تحوّلت معها فرنسا من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.
بكلّ تاريخه الوطني المشرّف وبكلّ مكانته العظيمة في النفوس، لم يستطع ديغول أن يمنع الفرنسيين من الخروج في تظاهرات حاشدة وصاخبة ضده في العام 1968، لأنه وقف ضد التوسّع في تطبيق نظام اللامركزية. وعندما قرّر ديغول الاحتكام الى الاستفتاء العام في شأن اللامركزية، خذله شعبه الذي صوّت لصالح المزيد من اللامركزية. وديغول الذي أعلن عن أنه سيتنحّى من الرئاسة إذا لم تأتِ أغلبية الأصوات في صالحه، أقدم بالفعل على الاستقالة مساء 28 نيسان 1968 واختار العزلة حتى توفي بعد سنتين. بذلك أكّدَ ديغول احترامه لنفسه ولتاريخه ولشعبه ولوطنه واعتداده بكرامته الشخصية والوطنية.
لهذا الكلام مناسبة، هي هذا التدافع الشديد لعدد من الساسة لتسجيل حضور (شكليّ في الواقع لأغراض الدعاية الشخصية في المقام الأول) في معارك تحرير الفلوجة، فثمّة العديد منهم، على اختلاف ما يرتدون من عمائم وربطات عنق، حرصوا على تصوير أنفسهم وهم منكبّون على الخرائط العسكرية (!) كما لو كانوا جنرالات مُعتّقون في الجيش الروسي أو الأميركي!
نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي لم يُمهلوهم، فقد قاموا لهؤلاء بواجب السخرية المُرّة.
معارك الفلوجة، كما معارك الرمادي وسائر مدن الأنبار وقبلها معارك تحرير مدن محافظات صلاح الدين وكركوك وديالى، وكما المعارك المرتقبة في الموصل ومدن نينوى الأخرى، كان يمكن لها ألّا تكون أبداً ولا تحصل معها كل المآسي والمِحن المترتّبة على الاحتلال الداعشي. احتلال داعش لكلِّ هذه المدن والمناطق لم يكن قدَراً مكتوباً، ولا هو بفرض العين.. كان فقط نتيجة لأخطاء وخطايا ارتكبها هؤلاء الساسة أنفسهم، أصحاب العمائم وربطات العنق، الذين كان يتعيّن أن يكونوا الآن في عزلة وانزواء، كما فعل شارل ديغول... مع الفارق، وهو فارق شاسع للغاية.
أصحاب خرائط الفلّوجة!
[post-views]
نشر في: 25 مايو, 2016: 06:43 م
جميع التعليقات 6
د عادل على
فى الديموقراطيات الكلاسيكيه الناخب هو المحاسب وهو الدى يسقط الحكومه مهما كانت الحكومه قويه------كمثال ادكركم بالحرب العالميه الثانيه ضد النازيه الالمانيه التى فازها سير ونستن جرجل--------لانه ماكانت تقبل امريكا الدخول فى حرب بعيدة عنها لولا ضغط شرشل على
محمد سعيد
شكرا اخي الكاتب لتذكيرنا بشخوص تاريخه ملتزمه بالمبادئ والقيم والاخلاق مثل ديغول , لكن تظل المقارنه مع ساستنا خارج منطق العقل وبعيدا عن احداثيات التاريخ . فكل ما خلف لنا الغزو والاحتلال حفنه مرتزقه وشخصيات واهيه , همها الاول والاخير ولربما
الشمري فاروق
هؤلاء لا كرامة لهم ولا يحترمون انفسهم... انهم اناس بعيدين عن الخجل ولا تعرق جباههم...لأنهم لا يعرفون معنى الاحترام لانفسهم...وكما يقول المثل(أذا كنت لا تخجل فأعمل ما شئت)
د عادل على
فى الديموقراطيات الكلاسيكيه الناخب هو المحاسب وهو الدى يسقط الحكومه مهما كانت الحكومه قويه------كمثال ادكركم بالحرب العالميه الثانيه ضد النازيه الالمانيه التى فازها سير ونستن جرجل--------لانه ماكانت تقبل امريكا الدخول فى حرب بعيدة عنها لولا ضغط شرشل على
محمد سعيد
شكرا اخي الكاتب لتذكيرنا بشخوص تاريخه ملتزمه بالمبادئ والقيم والاخلاق مثل ديغول , لكن تظل المقارنه مع ساستنا خارج منطق العقل وبعيدا عن احداثيات التاريخ . فكل ما خلف لنا الغزو والاحتلال حفنه مرتزقه وشخصيات واهيه , همها الاول والاخير ولربما
الشمري فاروق
هؤلاء لا كرامة لهم ولا يحترمون انفسهم... انهم اناس بعيدين عن الخجل ولا تعرق جباههم...لأنهم لا يعرفون معنى الاحترام لانفسهم...وكما يقول المثل(أذا كنت لا تخجل فأعمل ما شئت)