TOP

جريدة المدى > عام > خطورة المنطقة الفاصلة.ثلاث تجارب بين الفكر والسياسة

خطورة المنطقة الفاصلة.ثلاث تجارب بين الفكر والسياسة

نشر في: 29 مايو, 2016: 12:01 ص

لا استطيع ان استثني حزباً من الاحزاب الحاكمة من حال مشترك يبدو فيها الحزب الحاكم واحداً في الظاهر وانه "عدة" احزاب خفية في باطنه. وهذا طبعاً أكثـر وضوحاً في الاحزاب الحاكمة الكبرى او ما يسمى احزاب الانظمة الشمولية صفة "الاحزاب غير المرئية" تعرفها الن

لا استطيع ان استثني حزباً من الاحزاب الحاكمة من حال مشترك يبدو فيها الحزب الحاكم واحداً في الظاهر وانه "عدة" احزاب خفية في باطنه. وهذا طبعاً أكثـر وضوحاً في الاحزاب الحاكمة الكبرى او ما يسمى احزاب الانظمة الشمولية صفة "الاحزاب غير المرئية" تعرفها النخبة من سياسيي ذلك الحزب هاجساً او كتماناً. صحيح، المُعْلَن هو حزب ديمقراطي وثمة تصويت على القرارات. لكن حقيقة الامور ان القرار يبزغ من مزاج رجل القمة وفي الأكثـر من ثلاثية القمة وهم "رئيس وقائد الحزب والدولة والقائد العسكري او وزير الدفاع ورئيس المخابرات، والاخيرة قد يكون اسمها الجستابو أو كي جي بي. أو الامن والمخابرات ، التسميات تختلف لكن المعنى والمهمة واحدة.

في دول مثل هذه – او معسكرات مثل هذه توظَّف الثقافة لغرضين – ليس جوهر الثقافة احدهما، هي شاغل اجتماعي وتلقيني تربوي موجِّه، تنشر صيغ تفكير وسلوك وطاعة وتنفيذ ومسوّغات مصطنعة او حقيقية، للحماسة. ودول مثل هذه لا تعتمد كثيرا على الثقافة المطبوعة. في الجانب السياسي المباشر واليومي تعتمد على الإذاعة والتلفزيوني فهما أكثر مباشرة وأكثر شعبية وتؤديان المهمات ساخنة وساعة بساعة على مدى اربع وعشرين ساعة في اليوم. لا بأس من التنمية الفكرية للاوساط المقارنة، ولا بأس ايضاً من اشغال المثقفين "غير المؤتمَنين" في مزاجهم وتفكيرهم، وفردانيتهم. يكفي انهم ظاهراً يطيعون ويرددون وينفذّون ما يوكل اليهم.
وليس ما جرى في كوبا والصين وكوريا الشمالية والتشيلي وبعض الدكتاتوريات الصغيرة في افريقيا يختلف كثيراً عن ذلك، الخطوط المهمة واحدة. لسنا هنا بصدد إعابة او بحث عن مثالب ولا تقليل شأن ، لكننا نحتاج الى مكاشفة لنفهم الامور التي اعقبت الاحداث فيها. فقد صار واضحاً اليوم ان وراء هذه الانظمة او السلطات قوى اخرى تعمل ضدها، او تختلف معها، وتبذر بذوراً كراهية . وان هذه الانظمة والمُضْمَر فيها كانت ضمن مدى رؤية الاعداء في الخارج.
ونعلم جميعاً ماذا كانت نتيجة فاشية هتلر وما حصل لالمانيا. انه تقسيم البلاد حصتين. ونعلم ما حصل من بعد للاتحاد السوفيتي وكم حصة ً صار بعد انهيار القلاع التي ما كان في الحسبان ان تنهار. ورأينا في العراق كيف أنتهى النظام وتشردت القيادات وكيف وقع البلد بأيدٍ منتفعة أكثر مما هي ثورية مناضلة او حتى اصلاحية. وإذا كان تقسيم البلاد غير واضح ادارياً فهو واضح مجتمعياً اليوم وخرائط مؤسفة للمستقبل تُنشَر بين وقت وآخر لكسر المفاجأة وليألف الناس المتوَقع. الاسباب متشابهة والنتائج متشابهة. التفاصيل تتحكم فيها المراحل الزمنية  والخرائط الجديدة للنفوذ في العالم.
"العقول السياسية" العالمية تدرك ان العراق كان بلداً وشعباً شيء والحاكم والقيادات شيء. كذلك كان الاتحاد السوفيتي وستالين، ستالين والكرملين شيء والشعب السوفيتي شيء هتلر ودائرته شيء والشعب الالماني شيء وهو شأن صدام ودائرته شيء والعراق شيء. دعونا من العواطف والولاءات نحن لسنا مع او ضد قدر ما نحن نريد ان نشخص عللاً لها نتائج كارثية على بلدانها.
هذه "الفاصلة بين السلطة والشعب، في امثلتنا الثلاث لا تظهر للعيان ولكنا نعرفها وتتكشف واضحة يوم وساعة انهيار النظام. فمنها نفذت القوى العاملة سرّاً وتكامل مشروع الاسقاط .
التكتم والجهد المبذول سلطوياً، أو حماسة وولاءً وطنياً، في تغطية وجود هذا "النشوز" الخفي او عدم الرضا، وإنكار وجود تلك الفاصلة بين السلطة المستبدّة وعموم ناس البلد، هذا التعتيم وهذه التغطية عمل وطني بالنسبة للزعيم او الحاكم وتتحول فجأة الى حقيقتها الدفينة بانها جريمة تستّرت عليها الاجهزة والحزب والصحافة والثقافة الرسمية. لكن هذا الادراك المتأخر لن يكون مجديا، فقد سقط النظام وسقطت البلاد بيد اعدائها.
مسألة اخرى، ان هذه الانظمة تنّمي طبقة بيروقراطية نعََمُها وسلامتها مرهونة بسلامة الحكم او سلامة الحاكم او قل سلامة الخطأ! حصل هذا بوضوح  في الاتحاد السوفيتي زمن بريجنيف. وحصل قبله لهتلر من مجموعة قادة ومفكرين تمتعوا ببيروقراطية في ظل زعيمهم ومنهم عسكريون واساتذة جامعات. وحصل هذا في العراق كما هو معروف .. لقد شهدوا باعينهم الانتقام الدموي للقائد من رفاقهم من قادة الحزب وهم مبدئيون مستاؤون ممن وصفتهم وراء الفاصلة. تلك المجموعة البيروقراطية المحيطة بالقائد احست بما قد يهددهم ايضا فدفعوا الشر بالصمت والموالاة . اكتفوا بالنظر للمجزرة ثم التغاضي. محنة اخلاقية ارغموا على تقبلها بمرارة وبعضهم بلامبالاة. الجدوى واستمرار النفوذ والامتيازات – من مظاهر البيروقراطية، ورثتها عادة اولئك الكوادر الاقل نضالية والأكثر انتفاعية. وربما كان قلة منهم يؤمنون بسلامة الموقف!
لم يطل هذا الصمت وهذه التغطية . قيادات العسكر، القادة، عبروا عن مكنوناتهم في الايام الاولى لقصف بغداد من الغزاة الامريكان إذ سارعوا الى اخلاء مواقعهم والهرب او التصرف بسلبية وافتقار حماسة حتى اطمأنوا من خوف الحاكم وتأكدوا من انتهاء تسلطه او نفوذه، فغادروا تاركين الجنود في المقرّات..
إن احداً لا يمتلك تفاصيل بدقة كافية ما حدث للقوات المسلحة السوفيتية بعد التفكك ولا كيف توزّع ولاؤهم: يسنين وتفرده، قيادات الحزب، الـ كي جي بي ...، المهم اننا لا نعدم نوعاً من التآمر او التعاون او التفاهم مع الغرب على مصير البلاد. فقد تناثرت الجمهوريات، الناتو اخذ حصتَهُ وروسيا استبقت حصتها وبعضها ما يزال عليه خلاف...
لنلاحظ الآن مسألة مشتركة اخرى:
الاحتلال الالماني – الهتلري صحبه دمار مدن ونهب خفي وضحايا. واختارت القيادة الالمانية للدولة المحتلة  قيادات ، اختارها الفوهرر. وحين اجتاح السوفيت جيكوسيوفاكيا بعد تمرد غذته القوى المعادية، اختارت القيادة السوفيتية بيوشلزت، سكرتير الحزب الشيوعي الاوكراني ليكون مسؤولاً وقائداً ! وبعد غزو الكويت ونهبها اختار الرئيس القائد حاكما عليها. هذا يعني ان للعقل السلطوي خطوط عمل وتفكير متوارثة تتكرر كما هي إلّا اختلافات ثانوية – واختلاف رأي على اسباب الاحداث وشرعيتها. يمكن ان تحترم كل الآراء، ما يهمنا هو رصد الظاهرة ونتائجها.
الغريب في كل هذه الحالات المؤسفة ان كتاباً ومفكرين وصحفيين مؤمنين او مرتزقة كلهم اسهموا بمظهرية وطنية نضالية او قومية وبحجة الدفاع عن حزبهم، الحزب الوطني او حزب الامة... الخ.
وإن اولاء اسهموا في تغطية اسباب السقوط أو الخسارة الوطنية وسقوط الانظمة ودمار للبلاد كلها او تقسيمها او احتلالها. وهم عبر وسائطهم الثقافية والصحفية كانوا يرددون ما يُلَقَّنون به وكأنهم اجهزة تسجيل واضعين في اذهانهم ان اقوالهم وتصريحاتهم تنقل للقيادة. منتفعون كثر ورثوا الاتحاد السوفييتي – بعضهم سرّب وباع كميات من اليورانيوم، ومنتفعون كثر ورثوا هتلر واسراره وترسانته وايضاً أثرياء وقادة بعثيون راحوا يعيشون بالأموال التي كسبوها، وربما بعضهم مما تسلمه من اثمان التعاون مع العدو الذي اطاح من بعد بالبلاد! الانصار البسطاء ظلوا بلا حماية  في احيائهم الفقيرة تلاحقهم العصابات الجديدة وقُتِل العديد منهم في الشوارع!
ما الذي يصلنا من هذا كله ما نحن عليه اليوم؟
لا اريد التعقيب على الفكر السياسي او فوضى واختلاط المفهومات السياسية وخلفياتها الفكرية. لكني لا استبعد، بل أرى الدمار القادم الذي بدأت تتضح بعض مؤشراته. البلد بلا قيادة سياسية واضحة. وان هذه المربكات والتقاطعات في الافكار والمصالح ستؤدي لنفاذ قوى متحفزة من خلال لا الفاصلة بل هذه المرة الفواصل بين القيادات وقطاعات الشعب المختلفة في ولائها وافكارها فيما بينها وعلى خلاف وعدم رضا مخفيين من تلك التي اشرت لها اول الكلام.
وكما حصل في التجارب الثلاث السابقة، سنشهد دمار البلاد وهروب العديد بثرواتهم، او الى ثرواتهم التي تنتظرهم. وسيبقى الشعب يعيد دورة بؤسهِ وتضحياته المجانية والنضال مجدداً لايجاد بلد محترم وناس يتمنون منذ أكثر قرن ان يعيشوا مثلما يعيش الناس باكتفاء اقتصادي وضمان صحي ودولة قانون واحترام متبادل  لعقائد الناس وقناعاتهم...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram