قد يبدو غريباً أني أضع عنواناً عن اللغة واللهجات التابعة لها وأن أبدأ الحديث عن ستالين! هو فعلاً موضوع مثار عجب وانا اول من أدهشهم ان يكون لهذا القائد السياسي الثوري رأي في علوم اللغة!نحن نعلم الجو العام لشخصيته. وان كانت معلوماتنا عن هذه الشخصية مشو
قد يبدو غريباً أني أضع عنواناً عن اللغة واللهجات التابعة لها وأن أبدأ الحديث عن ستالين! هو فعلاً موضوع مثار عجب وانا اول من أدهشهم ان يكون لهذا القائد السياسي الثوري رأي في علوم اللغة!
نحن نعلم الجو العام لشخصيته. وان كانت معلوماتنا عن هذه الشخصية مشوهة وقد عمل الغرب كثيراً لإظهاره بمظهر الديماغوغي الدموي الحديدي...الخ/ حقيقة الامر ليست كذلك . هو دمث في الحديث الخاص، مفكر، متأمل في نتائج الأمور لكنه كان ثورياً صعب المراس ويعرف السياسيين حوله من الحلفاء معرفة ذكية ونافذة. السيد ميلوفان ديجلاس Milovan Dijilas، قبل خلافه معه، يصف لقاء معه، ورد فيه ان حديثه انعطف الى الحلفاء : "وبما انكم تظنون انهم مجرد كونهم حلفاء يجب ان ننسى من هم. الانجليز وتشرتشل؟ لن يجدوا احلى من ان يحتالوا على، ان يخدعوا حلفاءهم. في الحرب الاولى كثيراً ما خدعوا الروس والفرنسيين. وتشرتشل هذا من النوع الذي اذا غفلت عنه سوف يستل الكيبك (الدرهم) من جيبك، نعم وروزفلت ليس هكذا، هو يدفع كل يده عميقاً لاكبر كمية من النقود! لكن تشرتشل، ولو لكيبك واحد! وكان يحذر من المخابرات والدبلوماسية البريطانية فهم الذين قتلوا الجنرال سيكوبيسكي في الطائرة ثم اسقطوا الطائرة. فلا دليل ولا ذكاء ينفع!
يقول ميلوفان: انه ظل يحذر من المخابرات الغربية وقد نقلت هذه التحذيرات الى تيتو فكانت وراء انتقال تيتو بالطائرة ليلاً من Vis الى منطقة تابعة للسوفيت في رومانيا 21 ايلول 1944 Milovan Dijlas: Coversations with Salin
NewYork1962 P.73-74.
استطردت في الحديث الذي رواه ميلوفان ديجلاس، اردت اظهار حيوية الرجل ومزاجه الذي يجمع بين اللطف والدقة، مثلما بين الحرص والبصيرة السياسية. ولا ننسَ الظرف الذي كان يحيط به والظرف الداخلي اذ كان همه ترصين الجبهة الداخلية استعداداً لما يهدده مستقبلاً. وهنا يكمن سبب مهادنته المؤقته لهتلر. على أية حال لا أخفيكم اني صرت أراه غير ما أشاعوا عنه وأقدره ثورياً حقيقياً جباراً وذا بصيرة نادرة في حقول شتى.
من هذه، وهنا أعود لموضوعة اللغة، استوقفني رأيه في اللغة وهو يجيب عن تساؤلات عدد من الصحفيين الشباب: وهذا موجز لرأيه في اللغة الأم واللهجات المتفرعة منها. هو رأي مخالف تماماً للنظرية الغربية في اللغة، وكما سيتضح لكم. رأي ستالين اولاً ان اللغة ليست من البناء الفوقي. اللغة وسيلة للتعامل بين ابناء المجتمع تخدم كل الطبقات وهي تلعب دوراً محايداً بالنسبة للطبقات، لكن الفئات الاجتماعية، الطبقات، ابعد من ان يكونوا محايدين بالنسبة للغة. انهم يجهدون لاستخدام اللغة لمصالحهم الخاصة ولغرض معجمهم الخاص وتعابيرهم. لكن هذا يغني المعجم الكبير للغة المتكلمين مثلما يبعد العديد من الكلمات المهجورة. حاجة المتكلمين تقرر ذلك. ورأيه في القواعد او النحو ان يقدم احكام تحويل الكلمات ليس بالرجوع الى الكلمات الحسية بل الى الكلمات بشكل عام، بالرجوع الى الجمل بشكل عام دون الرجوع الى الشكل المحسوس لأية جملة بشكل خاص. هو يأخذ ما هو عام واساسي في تحويل الكلمات وترتيبها في جمل وفق احكام علم القواعد وقوانينه. علم القواعد حصيلة عملية تجريدية صاغها الفكر البشري عبر حقبة طويلة من الزمن. انه علامة الانجاز الهائل للفكر. ويشبه علم القواعد، في هذا المجال، علم الهندسة الذي يجرد نفسه حين يقدم قوانينه عن الاشياء المحسوسة.... وان علم القواعد يتغير ببطء اكثر من الأرومة الاساسية للكلمات. هو صار متقناً عبر العصور. تغيراته ابطأ لكنها لاتغير اللغة الوطنية/ تبقى هي لغة الوطن. اما اللهجات التي نشأت عن عزلة بعض الفئات الخاصة، فمن الخطأ وصفها باللغات. وخطأ ايضاً ان تقول لغة ارستقراطية او لغة برجوازية مقابل لغة بروليتارية او لغة فلاحية. هذه ليست لغات هذه لهجات تابعة للغة الوطنية. خطأ فادح ان تقول بوجود لغة طبقية. الوجود الحقيقي والثابت هو للغة الوطنية الام. لايمكن اعتبار اللهجات والألسن الخاصة لغات. كلا بالتأكيد! هي تفرعات لّلغة الوطنية المشتركة بعيدة عن كل استقلال لغوي ومقضي عليها بالخمول. ومن يقول بأنها يمكن ان تتطور وتصبح لغات فهذا يعني ان هذا القائل فقد الأفق التاريخي وهجر الموقف الماركسي...).
(هذا الرأي ورد في كتاب ستالين : "الماركسية وقضايا علم اللغة".) وقد تابع في حديثه جذور هذه النظرية عند ماركس وفيورياخ.
وهنا تعود بي الذاكرة الى دورة في اللغة Extensive Course اقامتها مؤسسة فورد Ford Foundation : خلاصة النظرية الامريكية فيها: ان اللغة كلام Language is Speech وبما ان اللهجات كلام. فهي لغات. وان لكل فئة اجتماعية او مجتمع اللغة التي يتحدث بها. وبهذا تكون اللغات واللهجات متساوية القيمة من حيث اداء المهمة التعبيرية للمتكلمين بها. وان اللهجات، التي هي بهذا المفهوم لغات، قابلة للتطوير والتهذيب والصقل عبر الاستعمال لتصبح لغة الكتابة كما هي لغة الكلام.
واضح ما وراء هذا الكلام. وهو كلام علمي ولسنا ضده نظرياً، لأنه يمثل اجتهاداً لغوياً. لكنه خطر وذو ضرر مستقبلي على أمة مثل الأمة العربية. فلولا القرآن الكريم والاسلام، ستصبح تلك اللهجات لغات متعددة، وربما هم، فضلاً عن علمية الكلام، آخذون هذا البعد المستقبلي/ السياسي/ الديني/ في الاعتبار.
هذه النظرية المخالفة لنظرية ستالين/ او النظرية الماركسية/ لاتقول بلغة وطنية او اللغة الام . هذه تعابير غير علمية بالنسبة لهم. هم يقررون علماً لغوياً وغير مسؤولين عن افرازاته او تأثيراته الاجتماعية. لكني اعتقد بأنهم في نشره في البلاد العربية، اخذوا تلك التأثيرات بالاعتبار وربما قصدوها واسّسوا معاهد لنشرها. هي علم نعم. وهي عمل سياسي نعم ايضاً. الثقافة تخدم الحالين. بينما ستالين يرى رأياً اخر. فهو يقول: يضيف المجتمع ألفاظاً. ويهجر الفاظاً لكن اللغة الوطنية تبقى وصيغها وقواعدها تتطوران ولكنهما تظلان صيغ وقواعد اللغة الوطنية . لقد مضت مئة عام على يوشكين. ولغة يوشكين نقرأها ونتحدث بها وقد حدثت خلال هذا الزمن الطويل تحولات اجتماعية وثورية. اللغة الروسية مثلاً حافظت على نظام قواعدها والأرومة الأساسية لكلماتها. (اضيف الى قوله ان اللغة العربية مضى عليها اكثر من الفي سنة ولم تتغير تراكيبها المهمة وقواعدها الاساسية..)
ان الكلمات والتعابير ذوات اللون الطبقي، في رأي ستالين، تستعمل في الكلام ليس طبقاً لأحكام قواعد طبقية، هذه لا وجود لها ، وانما طبقاً لاحكام قواعد اللغة القائمة المشتركة بين كل افراد المجتمع. واقع الاختلاف في السيمانتزم اللغوي لاينفى، بل على العكس يؤكد وجود لغة واحدة مشتركة لكل الشعب ويؤكد ضرورتها. ويرى ان التداخل اللغوي لا يكون انفجاراً، بل هو عملية طويلة تستمر مئات السنين فلا مجال للحديث عما يسمى الانفجار اللغوي الان. وقال في هذا الخصوص ايضاً ان معجم اللغة المنتصرة يغتني من اللغة المندحرة وهو يقوي المنتصرة لا يضعفها . فاللغة الروسية التي تداخلت عبر التطور التاريخي، مع لغات عدد من الشعوب الاخرى، خرجت منها منتصرة ومحتفظة بطبيعتها وقوانينها. السمة الوطنية للغة تبقى. ويؤكد مرة اخرى: من قال ان اللغة بناء فوقي، اوقع نفسه في ورطة واوقع معه علم اللغة...! لا علاقة للغة بالاقتصاد والطبقات. اللغة الوطنية لغة الشعب كله عبر تاريخه. وعلم اللغة لا يمكن ان يتقدم على اساس صيغ خاطئة تتعارض مع كل منحى تاريخ الشعوب واللغات... وكان في حديثه يدعو الى النقاشات العلمية والدراسة الجادة العلنية لمشاكل اللغة ولمزيد من سماع الاراء...
يعيدني الكلام الاخير الى بداية مقالي بأن الرجل ليس كما صوره الغرب. فمن كلامه نجد حكمة في الكلام وتبصراً ودعوة للبحث العلمي والدرس الجاد لعلوم اللغة، وهذه بالتأكيد دلائل شخصية ليست هي تلك الحديدية المحاربة والدموية التي قال لنا عنها الغرب.. مع الاقرار بصحة بعض ما قيل وكتب، اعتقد بأن هذا الرجل العملاق يحتاج الى دراسة محايدة تنصفه مما وصفه به اعداؤه وأعداء بلده. لو كان ضعيفاً بليداً لكان في رأيهم طيباً سمحاً ومن الذين لم ينصفهم التاريخ!