كما لو أني نسيتُها، قلادةَ الفضة، التي جلبتُها لها من روما، قبيل الاحتفال بمناسبة العيد. ظلت، ولأسبوعين كاملين حبيسة علبتها الحمراء الصغيرة، في خزانة كتبي، لم أشأ تقليدها لها، إلا في الليلة التي تسبق العيد: كنت أريد أن أجعل من ليليتنا الباردة تلك استثنائية، نحن المتزوجين منذ أكثر من ثلاثة عقود، ومع استهجانٍ مُضمرٍ داخل روحي، مع سرورٍ وبهجة لا أعرف كيف أعبّر عنهما الساعة هذه، رحت أرتّب لليل الشتوي الطويل مدفأتهُ الخاصة، اغنيته الخاصة، قصيدته المناسِبة، كلماتي الجديدة. لكنَّ هاجس استهجاني العميق ظلَّ يسخر من أفعالي كلها، صار اكبر. قلت: نحن قوم من العرب لا نعرف للحب معنى خارج الجسد، نحن أمة من سيوف وصهوات جياد وصحارى مغبرة. ما لنا والحب والمناسبات الجميلة، وقد بلغت حياتُنا شوطها الأخير قتلا ونفيا وتصدّعا .. وهكذا رحت، ودونما جدوى، أبحث في تأريخ عشقنا العربي عن أساطير وقصص أرمم بها ما يتراجع في روحي من عشق واغنيات وقصائد .
لكنني، وفي غمرة احتفال الناس بالعيد هذا، قلت: أكان العيدُ للحب بين اثنين أو هو موسم لجني التمر والغلات، مناسبة لدرء الفيضان او الجراد، فسحة لتلاقي شفتين ..هكذا رحت أبتكر المناسبة بحسب ما يرد على عيني من الدمع والضحك والارقام والسنوات ، قلت: لأحتفل مثلما يحتفل الرومان الوثنيون في عيد الحب، مثلما يحتفل سكان الأرض بمناسباتهم الخاصة، ولأجعل من مناسبة زواجنا مناسبة سعيدة لنا، نحن الأثنين. شيء من وجد وفناء ونهايات، ما كان الجسد مادة لها، تملكني وقادني الى حيث أحاول أن أبتهجَ وأسرّ. قلت ذلك في تعزية أخيرة، فقد كنت ألوذ بمعاني الأشياء الغامضة الواضحة، متفادياً خسارات ما حولي.
كان الخيال يكتب قصته بطريقة مختلفة، لكن في مكان آخر، تحت ظل نخلة، أو على صفحة جدول، أقصى السباخ، في مقهى ما على شط العرب، بين حشد من الناس، أمام مغازة للثياب الجديدة في سوق الهنود. لا أعلم . لكنني أتذكر أني كنت أتبادل الرسائل معها، وأنا جندي في الحرب، عبر بريد ورقي كثيرا ما يتأخر، أو بيد أحد الجنود، من أصدقائي، في إجازتهم الدورية، حيث كنت أكتب في خاتمة كل رسالة: ( من المخلص لك. طالب) كنت أرسم صورة الحب بيني وبينها بأشكال كثيرة متعددة، مرة تجيء على هيئة طفل له جناحان، ويحمل في الغابة الكثيفة قوسا ونشّاباً .. ومرة أخرى يأتي على هيئة عصفور ينقر حبة ضوء مالحة، بخلاصة، كنت أستدعيه بحسب المكان الذي أنا فيه، كانت الطبيعة ومقتنياتها تحدد شكل صورة الحب، فلا أتردد في تدوينها.
ولأنني لا أخذلها دائما، تترك زوجةُ أبني حفيديَ عندي، ساعةَ تكون في المطبخ، وقد أخذ حصته من حليبها، فأفاق بعد أن اطمأن وأرتوى في حجرها، كنت لا أكتفي بتقبيل رأسه، وما بين عينيه ووجنتيه وعنقه إنما أشدُّ كفّيه وقدميه الى صدري، لاثما مقبّلاً. هنالك شيءٌ من عطش وسغب يجعلني غير مكتف بتقبيله، لذا أطوّق بذراعيه الصغيرتين عنقي، وألصق صدره الصغير الرَّطب على صدري، فاشعر بنبضه يتسرب عميقاً في جسدي، ثمة أنهار من فرح وسُؤدُد تروح، تجري غائرة في أوردتي. يا الله، هذا الطفل الغرُّ يفعل الافاعيل بي، أنا الذي نيّفتُ على الستين، وخلّفتُ أكثر من نصف دزينة من الأولاد، لماذا لم يكن حبّي وشغفي بهم مجزيا لسنواتي هذه، ولماذا لم تتمكن الحروب والسجون والحصارات ومتاعب الحياة من قطع دفق ينبوع الحب عن جسدي، أنا الذي ركلتني السنوات بأقدامها، وإلى متى سأظل جائعا للحب هذا، جائعاً للاحتفال بربيع جسدي، هكذا مثلما يفعل أولادي مع زوجاتهم وحبيباتهم؟
يقول أبني بأن ابتسامة منّي تكفي لحياته، فاردُّ مبتهجاً، بان ورقة من قراطيسه كفيلة بان تحيني إن مت ذات يوم، وفي غفلة من الأولاد والأحفاد وهم يعبثون بباحة البيت الواسعة، وقد خلوا الى كتبهم ولعبهم، تمرق امُّهم، مجتازة قطعة الضوء التي بيني وبين روحي، فأهبُّ خفيفاً، متشوقاً، كأنيَ لم أصادفها منذ اعوام، اتبعها الى حيث تجلس على الأريكة، عطر أنثوي يجرني من أصلب ثيابي، وكمن يقلب قطعة منحوتة بعثرتها الأيام والليالي، رحت أقلب أصابعها، وقد فغمتني روائح الصابون والبطاطا والبقدونس، ومثل طفل يعدُّ نقوده رحت أحصي معها الثياب والأفراح والمسرات والأحزان، تلك التي جمعتنا، والتي فرقتنا أيضاً. تذكرت فساتينها واحذيتها وعلب المكياج وزجاجات العطور، التي رتبتها شقيقُتها الكبيرة في غرفتنا، قبل يوم زفافنا بليلة ، وكيف قضيت الليلة تلك، أفتح بيبان خزانة الملابس والأحذية ثم أغلقها، وافتحها ثانية مفتشا في الفساتين عن الجسد الذي سيدخلها بعد الساعة والساعتين، عن القدمين العصفورتين، أحصيت الاشياء هذه وأنا نصف نائم، ممدد على السرير الواسع، بوسائده العالية وساتانه الأبيض الحرير. تذكرت ذلك كله، وانا أمرر أصابعي بشعر حفيدي الذي اخذته فراشات كيوبيد إلى مسراتها لينام .
جاءت أمه وأخذته الى مهده، ذهب لينام، تركت حجري فارغاً منه، هم ناموا،أغلق أهل الدار أبواب غرفاتهم وناموا، صار المنزل قفراً منهم، سكنت القدور وصمتت الطناجر، سكتت مفرغات الهواء، لم تعد تعمل، أخذت أنفاسهم خارج البيت وسكتت، وحدي، في صالة المنزل الكبيرة، أبحث في الشاشة البيضاء عن قصة حب ما، كنت أنتظر انتصاف الليل، أنتظر انطفاء الضوء. قلت: ولأدعها تغفو قليلاً، بل لأدعها تتظاهر بالنوم. سأدخل غرفتنا، كما لو أنني لم أدخلها من قبل، وسأوقد المصابيح كلها،وسأقف قبالة خزانة ثيابها، سأدّعي بانني لا أريد أن أوقظها، لكنني سافتح العلبة الحمراء الصغيرة، وفي غفلة من يقينها، سأطوقها بسلسلتها الذهب، ومثل طفل عابوا عليه وجوده عارياً، سأحشر جسدي تحت الديباج الرخص البارد، حيث تنام، وسأرمي ما بفمي من قبل على كتفها وعنقها وتحت أذنيها، حتى وإن لم تقو على تطويقي بذراعيها.
قبالة خزانة ثيابها
[post-views]
نشر في: 4 يونيو, 2016: 09:01 م