TOP

جريدة المدى > عام > قصة قصيرة:الشال

قصة قصيرة:الشال

نشر في: 6 يونيو, 2016: 12:01 ص

منذ أن بدأ جسده في التآكل وهو يشعر أنه يتحول إلى مسخ ممتلئ بالتقرحات، لكنه بعد كل هذا الوقت اعتاد على شكله الجديد وأصبحت الحياة تسير متلازمة مع الألم.   حين استيقظ ، بدأ النور الضئيل الذي ينبعث من ثقوب النافذة العلوية يساعده على رؤية ما حول

منذ أن بدأ جسده في التآكل وهو يشعر أنه يتحول إلى مسخ ممتلئ بالتقرحات، لكنه بعد كل هذا الوقت اعتاد على شكله الجديد وأصبحت الحياة تسير متلازمة مع الألم.
   حين استيقظ ، بدأ النور الضئيل الذي ينبعث من ثقوب النافذة العلوية يساعده على رؤية ما حوله من الأشياء. أخذ يحدق بالسقف الإسمنتي المهترئ. ذهب بخياله لأبعد من المحال وهو يرسم بتلك البقع الظاهرة من خلاله أشكالا لطيور وأشجار. هذا ما كان يمنح لنفسه؛ عالماً يمتِّعه لحين موعد قدوم كريستين.
   في كل صباح يستيقظ قبل موعد قدومها حتى لا يضيّع على نفسه بهجة تلك اللحظة التي يسمع فيها صدى خطواتها الموسيقية، والتي تشبه موسيقى المياه المتساقطة برتابة من ثقب سقف الغرفة المظلمة على أرضيتها الخشبية.
   كريستين تأتي .. سمع صوت خطواتها تقترب من المنزل. لقد دخلت. واحد، اثنان ثلاثة.. ها قد فتحت الباب:
ــ  صباح الخير سيد آدم.
ــ  صباح الخير آنسة  "كرستين".
- كيف حالك اليوم ؟؟
 كان يستمع إلى صوتها بكل حواسه المتبقية، يتركها تتحدث عشر كلمات ليجيبها بكلمة، لم تعرف يوما لماذا ؟؟؟؟
كانت تظنه لا يحب الكلام في الصباح كثيراً. إلا أنه كان يحب الإصغاء إليها، فصوتها مثل صوت عصفور يغرد في الصباح لشجرة، باغتها الخريف مبكرا .
ــ  أنا بخير. أجابها بينما أخذت تفتح الستائر لتدع أشعة الشمس تنشر نورها في الغرفة وتتناثر ذرات الغبار بين خيوطها الذهبية، بحركات كان يراقبها مبتهجاً، وكأنها ألعاب بهلوانية تظهر أمامه في غرفته الكئيبة.
 كانت غرفته عبارة عن مساحة مربعة الشكل تشبه مختبرا في مستشفى. مليئة بالعقاقير والأدوية  وأنابيب التحليل، وثمة أنابيب تتصل بما بقي من جسده.
   بدأت "كرستين" تضمد  النتوءات المتقرحة بلون أصفر. وغيرها أخرى أخذت تجف وتصير بلون القرفة. كانت تعقمها برقة لتنسيه آلامه التي لم يعد يقوى على تحملها إلا بألم لذيذ. ألم حبّه "لكرستين". باغتها بسؤاله:
ــ  متى سأموت؟
وهو ينظر إلى عينيها التائهتين في تأمل جسده الضئيل. قالت بنبرة استغراب:
ــ  عندما يتوقف قلبك وتصعد روحك إلى السماء؛
   أرادت أن تُفعم أجابتها بشيء من الرضا. لكنه لم يشعر بهذا.
ــ  لا ليس هذا هو الموت الذي أخشاه .
التفتت إليه ورمقته بنظرة اخترقت بؤبؤ عينيه وأبحرت في عمق أفكاره.
ــ  أنا أخشى أن يتآكل جسدي كله ولا تبقى تقرحات مؤلمة تضمدينها بيديكِ فلا تتلامس آلامي مع مسامات بشرتك الرقيقة.. لقد احتملت الألم لسنوات حتى لا أحرم نفسي من لذة مداعبة أناملك لآلامي التي تبعث في قلبي المتعب رعشة تشبه نشوة الحب.
   بدأت يداها ترتعشان، ترتبكان، لكن قلبها وعقلها مستمتعان باعترافه لها. "أعلم كل هذا"، ردت عليه: "كنت أنتظر منك هذا الاعتراف منذ سنوات".
في كل صباح أجيء فيه إليك أخشى أن لا أشعر بخفقات قلبك تتسارع مع تقدم خطواتي نحو باب غرفتك. أن تصل التقرحات إلى عينيك اللوزيتين وتأكلهما فلا أشعر بنظراتك تطارد يدي وهي تتنقل بين جراحك وتبحث عن عيني تحت خصلات  شعري المنسدلة على جبيني.
قاطعها بتنهيدة حب حارقة.
 ــ آآآآه  .. نعم أعشق تلك الخصلة من شعرك التي تنسدل على جبينك وتغطي عينيك فتبعديها بزفرة قوية من شفتيك الممتلئتين كحبتين من توت بري. ذلك المشهد أجمل من إشراقة الصباح على العالم .
   في المساء ودّعته "كريستين" بقبلة على جبينه وأطفأت آخر أنوار البيت وغادرت. بقي مستلقيا في سجن سريره بعد أن عزم أمره على أن ينهي حياته. حاول بكل قوته، جاهد أن يفصل الأنابيب الموصولة ببقايا جسده المتآكل. أخذ يتحرك يمينا وشمالا، سقط على الأرض، ارتطمت جراحه بالأرضية فأخذت تنزف. صرخ من شدة الألم كأنه يناجي الموت. التصق وجهه بالأرض،  لم يستطع أن ينهض، شاهد شال "كريستين" ملقى على كرسي الجلد المجاور لسريره، حاول بكل جهده الزحف نحوه. مع كل حركة كانت آلامه تزداد وأنين جسده يعلو، لكنه كان يركز نظره على الشال ليتناسى ذلك الألم الشديدة.
تسابق مع الموت للوصول إلى الشال. اقترب منه، أخذ يشمه بعمق: آآآه يا "كريستين"..  أنتِ مثل زهرة اللافاندر الفواحة، لقد قررت الرحيل فاعذريني، يجب أن تبدئي حياتك من دوني. أنا مسخ، قبيح، متآكل، منته، وأنت في أوج تفتحك... ستشتاق آلامي إليك وستشتاقين لقبحي. عندما تأتين صباحا سأكون في العدم اجتاز الفناء نحو الراحة الأبدية.
   أصبح جسده يسبح في بركة من الدماء المختلطة بماء أصفر اللون، ووهنت قواه. بدأت عيناه تغيبان عن الوجود ومازالتا معلقتين بشال "كريستين"...

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram