TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > في تحريف معنى السلام

في تحريف معنى السلام

نشر في: 7 يونيو, 2016: 09:01 م

والله إن المهمة لشاقة، إذ كيف سيكتب أحدُنا مشهد الحرب في الفلوجة اليوم، ومن قبلها في الرمادي ومن بعدها في الموصل، والصور في التلفزيون ومواقع التواصل لا تتشابه، مع يقيننا بأنها متشابهة في الاصل، متشابهة منذ أن ابتكر الانسان آلة القتل. أي فلسفة ستعيننا على القول، ونحن نشهد انساننا في أحقر صوره، قاتلا ومقتولاً، هذه الحروب لم تترك لنا فرصة للرأي.
  على الصفحة الزرقاء نشر البعض مقطعاً لمقبرة جماعية، كانت تضم 400 مقتولٍ، شهيدٍ، مغدورٍ - سمهم ما شئت-، لكن قاتليهم طائفيون بلا أدنى شك. وفي زاوية من الصفحة ينشر أحدهم مقطعاً لأسرى، خسروا حربهم في الفلوجة، فهم يساقون ويضربون وسط شتائم تشي بالطائفية. وبين الصورتين تسمع وتقرأ وترى عشرات الصور. نعم، بإمكانك التمييز بين الصورتين، وتستطيع أن تحرر رأياً، تقنع نفسك ومن معك وعلى شاكلتك في التفكير. لكنكم لا تشكلون إلا أقلية ضعيفة، لا فعل لها، وليست بذات التأثير في حركة القتل التي مضى عليها أكثر من ربع قرن.
  كلّ سلام تعريفٌ ناقص للحرب. كل حرب هي تحريف مقصود لمعنى السلام. كل بنقدية للقتل، ولا وجود لمحارب مسالم، غير قاتل، فلا تتعجل قدرتك في قتلي كيما لا تنفد فرصتي في ملاقاتك قاتلاً، فالجهل ثقافة المتحاربين، وهي بحاجة دائمة لأميين، لا يفكرون بعاقبة الدم مراقاً، معجوناً بالتراب، الذي منه جسدي وجسدك. هكذا، رحت أتأمل ما يمكنني كتابته، أتأمل مشهد الـ 1700 مقتول في سبايكر، أولئك الذين لم يمتلكوا بعد فلسفة نهائية للحرب، ولم يُمنحوا فرصة الافصاح عن فهمهم للقتل على السنّة والشريعة، الذين اقتيدوا من أعناقهم الى النهر، حيث ذُبحوا، وحيث اختلطت دماؤهم بالماء الدجلة، بالماء الفرات، الذي يصلني بأهلي هناك، انا ابن الجنوب هنا. ومع الذين يفتشون عن جثث أبنائهم في مقبرة الصقلاوية، رحت أفتش وعبر الصفحة الزرقاء عن جثتي، أنا المقتول أيضاً.
  مع منظر الأسارى، من أهل الفلوجة، وهم يساقون مثل الخراف الى مقاصدهم التي لم يختر أحدهم نهاياتها، حيث لا يمكنني التمييز بين أحد، أكانوا مقاتلين او غير مقاتلين، كنت أنظر في عيونهم، أتفحص أجسادهم، وهي تطعن بالحراب، أبحث في وجوههم عن صفعات جندي مريض، قتل أحدُهم أباه، شقيقه، أحدَ أقربائه ... فلم اتبين حامل البندقية من الأعزل بينهم، ضاعت ورقة الحرب عندي مثلما ضاعت ورقة السلام، لكنني سأرتحل الى ثمانينات القرن الماضي، وانظر في عيون الجنود الاسرى من العراقيين والايرانيين، الذين كانت تطوف بهم السيارات في شوارع الأهواز وديزفول وطهران وبغداد وديالى والبصرة والعمارة. أترانا نسينا الصور تلك؟ ذاكرة الحرب تقول: هي صورة واحدة تتكرر. وما كان يسميه البعض فوزاً وانتصاراً كنت قد سميتُه الحماقة وسوء التقدير. أتنتصرُ عليّ وانا ابن جلدتك، اتهزمني وأنت صورتي، أأقتلك وانت لحمي ودمي وسميي على هذه الأرض؟؟
   لا أسأل القاتل عن سرٍّ غامض في بندقيته، ولن أسأل المقتول عن حكمةٍ اندفع تحت لوائها، أنا أسأل وأبحث في اليقين الذي تجلى لهما، أبحث في تل الجهل الذي كمن وراءه القاتل، عن الذين أطعموه قصاع القتل والبغضاء والتشفي، مثلما أبحث في عنق المقتول عن ينبوع الأمل الذي يجهله أو تجاهله آباؤه الروحيون، وقد دفعوا به الى المحارق. في جانب عريض مما يحدث في الفلوجة اليوم، يتجلى لنا على شكل خلاصة من تاريخ غُذّي طويلاً بالدم. يعتقد المقاتل الذي تمكن من قلبه وعقله الداعشيون في الفلوجة بأنه على الجادة الحق في قتل اهل الجنوب، فهم من وجه نظره شيعة وقتلة وكفرة، ومثل ذلك يتكشف للبعض من أبناء الجنوب، فيرى في صورة القتل والإهانة والتشفي استرداداً لدم غزير هدر منذ ألف عام وأكثر هناك. وضاع حق كبير معه .سيكون الوقت طويلاً ليفهم هؤلاء أن الحرب منذ أن اهتدى الانسان لآلة القتل هي تحريف قذر لمعنى السلام.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram