TOP

جريدة المدى > عام > الحضور الإنساني.. من الأدب الى السينما

الحضور الإنساني.. من الأدب الى السينما

نشر في: 12 يونيو, 2016: 12:01 ص

واجه الإنسان مسألة توقف الحياة وشغلته مبكراً هذه الخاتمة المصيرية الغامضة فتوقف حائراً بإزاء قوة غاشمة مجهولة تأتيه بأشكال مختلفة، مرضاً، قتلاً  أو انتهاءً مفاجئاً لا قدرة له على إيقافه. كان لابد لهذا الإنسان الحي من ان يقول شيئاً مادام لا يستطي

واجه الإنسان مسألة توقف الحياة وشغلته مبكراً هذه الخاتمة المصيرية الغامضة فتوقف حائراً بإزاء قوة غاشمة مجهولة تأتيه بأشكال مختلفة، مرضاً، قتلاً  أو انتهاءً مفاجئاً لا قدرة له على إيقافه. كان لابد لهذا الإنسان الحي من ان يقول شيئاً مادام لا يستطيع ان يفعل شيئاً لصده.

العلم تولى ابتكار العلاجات للجراح ، للأوبئة ، لدرء النيران او الغرق بصناعة سداد او قناطر. الأدب صنع أساطير وبدائل حياة كما اعلن الألم، والاحتجاج في محاولة تحريض او جمع قوى بشرية على ما يواجهه هذا الفرد الأعزل في الكون الكبير.
تفاوتت المحاولات التعبيرية في سعتها وجوهريتها من قصائد بسيطة الى تشبثات حب الى معانقات للطبيعة زرعاً او احتفاءً بجمال ما فيها. اتضح هذا من القصائد القصار والحكايا وتوسّعَ في الملاحم والتراجيديات
الاستعارة في اللغة، البلاغة، حاولت ان توجد معادلات او انتقالات. التشبيه حاول ان يجد تشابهاً مع الافضل او الاقوى وان يصوغ مقارنات. كشف المصائر والصراعات على الحياة قامت به التراجيديات والملاحم وصولاً او استمراراً الى السينما اليوم.
للسينما فلسفة وادوات متقدمة على المحاولات السالفة، آلياتها ووسائلها مادية مرئية وتحت اليد. وبدلاً من الذهني أو المُتَخيَّل امتلكت قدرة الانتقال من مكان الى مكان ومن زمان الى زمان وقدرة على جمع الشتات ليكون الجمع في موقع واحد: فندق، سفينة شحن، ثكنة او مشفى وقد يكون في عرض البحر او في زريبة مهجورة .
هذا الفن السابع له قدرة باهرة على اجتياز المسافة والسيطرة عليها وفي ان يخلع عليها واقعاً جمالياً سواء أكانت باخرة قديمة او تلالاً موحشة أو كانت نادياً او قطاراً في زمن الحرب.
الكاميرا ذات قدرة باهرة على التغلب على الزمن ونقله من مكان الى مكان و تتمكن من خلق زمني في ساحة تصوير واحدة. إذاً، السينما، كما يصفونها، فن "مسافة" وفن "مدة" وان هذا الازدواج هو مصدر تمتعها بواقعية أكثر حضوراً وحيوية. والسينما التي نتحدث عنها ابدعت في تقديم المصائر والقوى المتحكمة فيها.
في متابعاتنا للشعر القديم وفن القصيدة الجاهلية العربية، والانجلو سكسونية، بيوف والبحار الجوال وما قدمه اليونان، وللرسم مما قدمه الانسان على جدران الكهوف الى التكعيبية ... نجد في كل هذه محاولات "سينمائية " ، سينمية، بدائية لا تملك  كاميرا.. حاولت او حاول الإنسان ان يستعين بها.
كانت لهذه ابعاد زمنية ولبعضها أكثر من اتجاه، كما في المجسمات الآشورية والمعزى او الأيائل على الجدران البابلية وكما هي بعض الرسوم على جدران الكهوف وان كانت بدائية.
يمكن ان نجازف بالقول ان فترة او حقبة الافلام الصامتة هي حقبة مكملات للمسعى الفني في الرسم والنحت وهي اولى المحاولات للتجسيد الحي. لم يبق الا النطق وستكمله المرحلة القادمة. لا ننسَ ان بعض اللوحات على الجدران  كانت مقسمة الى أجزاء او الى أزمنة وهذا ما فعله جواد سليم في نصب الحرية، عدة أزمنة، عدة أحوال إنسانية، سينما غير ناطقة، او سينما صامتة من نوع ما، ابتدعها فنا الرسم والنحت.
ما تزال هناك نقاط في الفن مشتركة. فما فعلته الكاميرا من بعد شبيه بما فعله الشعر في بعض منه وما فعله فن الرسم ثم النحت، في التأكيد على "حدث" ، على "نقطة" ، على "مشهد" مؤثر. وهذا يمدّ العمل باستمرارية التأثير ويجتذب او يأسر المتلقي، لن تفارقهُ تلك النقطة او المشهد حتى إذا ترك القصيدة او غادر معرض الرسم أو غادر السينما وجلس في بيته. كانت هذه قدرة الباصرة وهي اليوم قدرة الكاميرا العظيمة الاعجازية. هي تصنع، تتمكن من ايجاد ، مركز فعل فني فكري معاً، تقول الإنسانية خلاله:
انا حاضرة هنا ! مثل هذا نشهده اليوم بعد حوادث التفجير. صورة معينة، لقطة لجثة، لبقعة دم، لنافذة متدلية ، لدراجة ملقاة ...، لا تفارقنا الصورة على الرغم من طغيان الاخبار ومرور ايام عديدة، وربما تظل تظهر لنا بعد أعوام ..
وإذا كان لنا قول في الرمز، في السينما وفي الأدب، نقول: في الأدب الصورة تفسر الحدث ونشير (أي تصنع دلالة). اما في السينما فالصورة تتضمن المعنى في حضورها غير معنية بتفسيره، مستوى الفهم يقرره، لا ادوات التعبير السينمي ولكن ثقافة المتفرج – وفي الأدب المتلقي، والا، فهي تقدم صورة واحدة للجميع. الأدب القديم كان ايضا يقدم صوراً ويمضي. التفاسير جاءت لاحقاً وهي من صنعنا لا من صنع مبدعيها. وفي الاثنين القصيدة - الملحمة أو السينما، يظل الهم المركزي واحداً. وهنا نحتاج الى التأكيد على ان الرمزية الجوهرية في الآداب والفنون ومنها اليوم السينما، متأتية من افتقاد السعادة والحب او البحث عنهما، والمعنى غير المباشر هو خوف الموت..، ومثلما نتحدث عن الملاحم والمآسي الشعرية نتحدث في هذا الباب عن رسوم بيكاسو وفي السينما عن "المدرعة بوتمكين" و"سارق الدراجات" و"الصياد" و"الشيخ والبحر". وفي المدى الملحمي الاوسع، يظل "الحرب والسلام" ، بإخراجيه الروسي والاميركي، عملا سينمياً وإنسانياً هائلَ العظمة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram