TOP

جريدة المدى > عام > كتاب "شعراء البيان": شجاعة مُفتقدة في مواجهة التاريخ، والنفس، لا الآخر

كتاب "شعراء البيان": شجاعة مُفتقدة في مواجهة التاريخ، والنفس، لا الآخر

نشر في: 13 يونيو, 2016: 12:01 ص

1    أصدر الدكتور خالد علي مصطفى كتاباً بعنوان "شعراء البيان الشعري" (دار ميزوبوتاميا 2015)، درس فيه بصورة موجزة المرحلة الشعرية المبكرة، التي اعتبر "البيان الشعري" عام 1969 تعبيراً عنها، لثلاثة شعراء هم: سامي مهدي، وفاضل العزاوي وفوزي

1
    أصدر الدكتور خالد علي مصطفى كتاباً بعنوان "شعراء البيان الشعري" (دار ميزوبوتاميا 2015)، درس فيه بصورة موجزة المرحلة الشعرية المبكرة، التي اعتبر "البيان الشعري" عام 1969 تعبيراً عنها، لثلاثة شعراء هم: سامي مهدي، وفاضل العزاوي وفوزي كريم؛ واكتفى هو، باعتباره رابع شعراء البيان، بنشر نص شعري له. ولقد كنت، قبل أن أشرع بقراءة الكتاب، على شيء من التوقع لما سيصدر عن خالد من مواقف نقدية، بشأننا جميعاً، بالرغم من رغبته المعلنة بالمراجعة الموضوعية. فهو، وسامي مهدي، من مثقفي المرحلة التي حكم فيها حزب البعث، وصدام حسين العراق والعراقيين. في حين كنت أنا وفاضل العزاوي، من مثقفي المنفى الذين رفضوا، وفق منظورهم، سلطة الحزب الواحد، وسلطة الدكتاتور. وبالرغم من محاولة السيد خالد بتحكيم ذائقته، والمعيار النقدي الموضوعي كما يعتقد، في النظر إلى شعرنا جميعاً، ولكن الظرف التاريخي البالغ الاضطراب والإفساد، الذي مرغ العراق بالوحل عبر قرابة نصف قرن، سيتحكم بالذائقة وهي مخدّرة، وبالمعيار النقدي وهو فاقد التوازن.

   أراد السيد خالد علي مصطفى في مقدمة الكتاب أنْ يضع إصبعه على هذا الجرح، ولكن بمحاولة قصدية للإلتفاف عليه، حين يكتب: "لا أظن أن جماعةً من الشعراء واجهت من الخصومة ــــ إن لم نقل من العداء ــــ ما واجهه شعراء جيلي ــــ جيل ما بعد السياب. لقد شنّ عليهم الأيديولوجيون، بمذاهبهم كافة، حملة شعواء، لم تُبق شيئاً منهم ولم تذر... كان الأيديولوجيون قد أوقفوهم في قفص الاتهام السياسي، وحاكموهم بموجب مقررات أحزابهم وانتماءاتهم، ماركسية كانت أو قومية، ثم أصدروا عليهم حكم "الإدانة" بحيثيات مبتوتة الصلة بالأدب والفكر.."(ص14) ولأني شاعر من هذا الجيل، وموضوع من مواضيع كتاب الاستاذ خالد، لا أعرف لمن تشير أصابعه حين يتحدث عن شعراء جيله الضحية، وعن الايديولوجي الجلاد. والإيديولوجي، كما أعرف ويعرف خالد، هو المنتسب لعقيدة، أو لحزب ذي عقيدة. فمن مِن شعراء جيله الضحية لم يكن فخوراً بانتسابه العقائدي، أو الحزبي، ماركسياً كان أو قومياً، ومنتصراً كان أو منكسراً؟  القارئ لا يحتاج مني أن أضع قائمة بكل أسماء شعراء الجيل الستيني، وأُعين انتماء كل واحد منهم. ولعل انكساراتهم التي اتضحت بعناوين دواوينهم، وقصائدهم، ما هي إلا انكسارات رجل العقيدة الحزبية، يوم رأى أن الانسان في حزبه لم يرتقِ إلى مصاف الفكرة المقدسة.
    لنقرأ هذه الجملة لخالد علي مصطفى يتحدث فيها عن الشاعر سامي مهدي: "لم يكن سامي مهدي، بعد ديوانه الأول، معنياً بأن تكون البواعث الإيديولوجية دافعاً لكتابة الشعر عنده بصورة مباشرة، إلا إذا تلامحت خفية من وراء القصيدة. لقد أخذت قصيدته تخترق هذه القشرة، على نحو تصبح فيه ملاحظة العين، أو مكونات النفس المُدركة أو غير المدركة، أو حيرة العقل في تأملاته الماورائية، هي المادة الغفل، التي يحولها التعبير إلى قصيدة دالة، في معناها الثاني، على وعي ذاتي خاص، تتفجر فيه المشاعر بكل هدوئها، وضجيجها، وتوترها.." ص38 إنها جملة نقدية حائرة، تريد أن تفلت من مأزق الاعتراف الذي أدلت به في قولها عن البواعث الايديولوجية التي يريدها الشاعر أن تتلامح خفية من وراء القصيدة. إنه إذن معني بأن تكون هذه البواعث دافعاً لكتابة القصيدة، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. والأخطر أن تتقنع هذه الدوافع الإيديولوجية بـقناع "الوعي الذاتي الخاص"، الذي تتفجر فيه المشاعر، بكل هدوئها، وضجيجها، وتوترها. إن خالد هنا يمنح مصداقية لكل مشاعر الكراهية، والروح الهجائية في قصائد سامي مهدي، ما دامت قد خرجت بصورة غير مباشرة من البواعث الإيديولوجية، بالرغم من أن هذه الكراهية المُعلنة، والتنكيل المصوّت بالآخر لم يكونا كما تريدهما جملة خالد علي مصطفى النقدية: أن تكون قد تلامحتْ خفيةً من وراء القصيدة. إنه يريد أن يبرئ، بأي ثمن، شعر سامي مهدي من البواعث الإيديولجية. لأن هذه البواعث لو توفرت فليست لصالح الشعر.

2
    المفارقة النقدية الأخرى، من بين كثيرات  في كتاب الاستاذ خالد علي مصطفى، نراها في هذا الموقف الذي بدا لي خارج أي منطق، يقول المؤلف: "إن الشعراء العراقيين، حين يجدون أرضاً تأويهم غير أرضهم، يتركون مواهبهم، ووهجهم، وطاقاتهم الخلاقة وراءهم، ولا يحملون معهم إلى المنفى (أو المهجر، سمّه ما شئت!!) إلا عدّة نجارتهم، أي مهارتهم في الصنعة ـــــ  بعد أن تخلّصوا من نار الكير الذي يلفح الوجوه، ومن الدخان الذي يعمي العيون، وهي حالة معاكسة تماماً لما أحدثه الشعر المهجري في النصف الأول من القرن العشرين في الأمريكيتين."ص13
    وفي تخريج آخر يبدو مضحكاً، بفعل قسريته، يرى خالد بشأن ابتعادي عن التأثير الأدونيسي (المذهب الشامي)، والعودة إلى السياب (المذهب البغدادي) محاولة تثير تساؤلاً: "..هل يستطيع من ترك شيئاً، طائعاً، أن يعود إليه بالحماسة نفسها التي كان عليها؛ وأن يتمثل الروح البغدادية من جديد، سواء أنهج نهج السياب أم نهج غيره، أم شق لنفسه نهجاً جديداً؟
وفي ظني أستطيع أن أجعل من هذه "العودة" سبباً آخر للأزمة التي أصابت شعر فوزي؛ بحيث أخذ ينتابني شعور أن جهوده النقدية في (ملابس الامبراطور)(يعني "ثياب الامبراطور"!) و(تهافت الستينيين) ومن قبلهما في (من الغربة حتى وعي الغربة)، بألمعيتها المعرفية وقدرتها التشخيصية، إنما هي تعويض عن وعي متنام بهذه الأزمة، أو محاولة للهرب منها إلى ما عبر عن "عقل" صاحبها بدلاً من التعبير عن "قلبه". أعود فأقول مرة أخرى، هذه هي محنة الشاعر الذي غادر العراق، ولم يعد إلا زائراً... إن عاد!!." ص116
جمل خالد النقدية غير حائرة هذه المرة، ولا تريد أن تفلت من مأزق اعتراف. ولذلك بدت بالغة القسوة، لي، ولكل مثقفي المنفى الذين تركوا العراق هاربين، من شتى صنوف التعالي والتنكيل والفاقة، صعوداً إلى الملاحقة والاعتقال والتعذيب والموت، التي صدرت عن إرادة سلطة الحزب الحاكم، ومثقفيه. فكيف يمكن أن يُقرنوا بمهجريي النصف الأول من القرن العشرين، الذين خرجوا بمحض إرادتهم لاكتشاف العالم الجديد شأنهم شأن الأوربيين، والناس أجمعين؟ إن خالد يريد بجملة مُغيّبة عن الوعي بقصد، أن يجعل من هؤلاء كيانات متبطّلة، خرجت للهو والعبث، ولذلك فقدت حرارةَ موهبتها، واكتفت بعدة النجار. جملة بالغة القسوة، ومحزنة، بالرغم من أنها أخفت المفردات، التي كان سامي مهدي يكتبها بجرأة أكثر أيام سطوة صدام حسين، حين يتهم هؤلاء بالخيانة، والعمالة ويدعو لهم بالموت في جليد المنافي، في حين يتدفأ هو بحرارة الشمس الوطنية. ولقد مات كثيرٌ من هؤلاء في جليد المنافي حقاً، ولم يكلف أحدٌ النفس، من مثقفي العالم العربي كله، بالاشارة إلى الجاني.
    وخالد في جملته يتحدث عن مواهب هؤلاء، ووهج هؤلاء، وطاقاتهم الخلاقة، حتى لتبدو جملتُه لي كريمةً، ولكن مفاجئة. فهل كان سامي مهدي، وحميد سعيد، وهو ضمناً، يعتبرونهم في السبعينيات، والثمانينيات، والتسعينيات مواهبَ، وذوي وهج، وطاقة خلاقة؟ أم كرسوا تلك العقود الطويلة من السنوات لغمر هؤلاء في النسيان، والتعتيم عليهم، لا في العراق وطنهم وحده، بل في عموم الوطن العربي، بعد أن اشتروا مثقفيه رخيصي الثمن بالثمن الرخيص؟
    ثم أني لم أفهم كيف توازنت فكرة المنفى الذي يقترن بموت الموهبة، في ذهن خالد النقدي. ولا أريد أن أُذكره بأنه شاعر فلسطيني بالدرجة الأولى، وأن الشعر الفلسطيني في جملته شعر منفى، وشعراء منفى مقتلعون من جذورهم. وتميزه جاء من هذا الأتون، الذي شاء خالد أن يجعله أتوناً خامداً، لا حرارة فيه، لدى المنفي العراقي وحده. لا أريد أن أذكره بذلك، لأن محاججتي لا تحتاج إليه. فشعر المنفى لدى كل شعر وشعراء العالم، وكل نقد ونقاد العالم، يتمتع بغنى استثنائي لا تُخطئه العين. فالشاعرُ فيه تُقبل عليه الذاكرة بفيض لم يألفه الشعر. والشاعرُ فيه يستعيد قامته الحقّة، التي تقزّمت تحت قامات من استطالت قاماتهم بالترهيب والترغيب. والشاعرُ فيه يلتقي بأجناس بشرية تمنحه أفقاً إنسانياً لا عهد له به في نفسه. والشاعرُ فيه يحسن لغةً جديدة، أو لغاتٍ جديدة، تُحيط وعيه المحدود برعاية الشمول الغير محدود. والشاعرُ فيه يصبح شاعراً عالمياً عن غير إرادة، لا بفضل العالم الذي يدعمه بالمخيلة فقط، بل بفضل وطنه البعيد الذي يدعمه بالذاكرة والمخيلة معاً.
    أما بشأن "الألمعية المعرفية" للنقد الذي أكتبه، بسبب خمود "قلبية" شعري جملةً، فتعتمد بصورة مركزية على قناعة خالد بأن شعري، وشعر الهاربين إلى المنفى مثلي، قد ضعف وفقد قلبيتَه ووهجه. وإذا لم يكن كذلك فإن رأي خالد تستّري، يحاول بكل ثمن أن يجعل من الخارجين على سلطة البعث إلى المنفى، خارجين على أنفسهم، وعلى هويتهم الوطنية كعراقيين، وبذلك فقدوا حرارة الشعر. والذي ييسر له هذا التأويل القسري عاملٌ سايكولوجي أيضاً، أجده عند آخرين يضيقون بالموهبة إذا ما تعددت. فحين كتبت النقد الالمعي ضعف شعري، وحين عُنيت بالموسيقى الجدية أربك كثافة جملتي اللغوية، وحين رسمت لوحات ناجحة كان ذلك على حساب المخيلة، وإذا كانت روايتي التي كتبتها مؤخراً مقبولة، فلا شك من أن ذلك سيؤثر سلباً على كل من الشعر والنثر النقدي..الخ. وأنا أشعر على الدوام بأني، في كل مجالات الابداع الخيالي، لستُ إلا محاولة تفتقد إلى همّة الشاعر العالمي، الذي يكتب الشعر كأهله، والنقد كأهله، والرواية كأهلها، ويسهم في كل الفنون كأي أستاذ ماهر. ولا يمكن أن يُنعت موقف مثقفنا العربي، بالمقارنة، بغير علّة الكسل وافتقاد العمق وسعة الأفق. ولذلك لن تقع في كل هذا الشعر العالمي على نموذج كسامي مهدي، أو غيره من "شعراء الراية"، وهو ينسج كل حياته في لغة غريبة الطابع، من معاداة "الآخر" (فرداً كان، حزباً، عقيدة، فكرة، أو سلطة) ومناكدته، والاحتراب معه، والتقليل من شأنه من أجل إعلاء "أنا" بائسة..الخ، دون أن يشعر بأن هذا النسج خارج السويّة، التي تتمتع بها لغة الشاعر، عقله، ذائقته، بصرُه وبصيرتُه.    
    إن هذا الذي جاء على لساني ليس فيض خطابة، بل وليد أسىً من رؤية غريزة الكائن، خاصة إذا كان كائناً مثقفاً، وهي تحرص على مصلحة عابرة، أو على ما تبقّى من مذاقٍ لمصلحة لم تعد فاعلة. ويُذعر من الحكم الجرئ على الفكرة، أو الموقف، أو الظرف التاريخي، بالبطلان. كل ما يحتاجه هذا الكائن هو العودة الجريئة لقداسة الانسان فيه، لا قداسة الفكرة لديه.
    إن رغبة الاستاذ خالد علي مصطفى في الحديث الموضوعي، الحميمي تحتاج إلى شجاعة كهذه. شجاعة لا أمام الآخر، وهي متوفرة ولكن لا نفع فيها، بل شجاعة أمام النفس، وهي أرفع أنواع الشجاعات.

3
    اعتراضي في القسمين السابقين قد لا ينفرد بخالد وحده، فهو ينسحب على آخرين، مثل سامي مهدي، بشأن تبرئة النفس الستينية من الموقف الأيديولوجي، وبشأن تأثير المنفى في إضعاف الطاقة الشعرية لدى الشاعر العراقي الذي رفض سطوة الحزب الواحد، دون منفيي العالم. في هذا القسم الثالث أنصرف إلى خالد، وزاوية نظره النقدية. واختلاف الرأي النقدي عادة ما ينطوي على غنىً ورحمة. فأنا أغنى وأتمتع في الحوار مع المختلف، حتى لو سعى إلى إنكار شعري جملةً، فكيف أذا ما ارتضاه، وهمّش عليه بما يراه مآخذ.
    في مقالة خالد عني، أحصيتُ قرابة 20 خطأ كتابياً أو مطبعياً في الشواهد الشعرية وحدها، بحيث أربكت إيقاع الأبيات ومعانيها. حتى عناوين الكتب لم تخلُ من هذا الاهمال، مثل "حين تبدأ الأشياء" بدل "حيث تبدأ الأشياء"، و "صدور العدد الأول" بدل "صدور الديوان الأول"، و"ملابس الامبراطور" بدل"ثياب الامبراطور".. وهو ليس إهمالاً متعمداً بالتأكيد، بل غفلة تبدو لي أبعد أثراً في الانطباع الذي تخلفه عناية خالد النقدية.
    إن شعراء مثل سامي، فاضل، خالد، حسب وياسين طه حافظ سبقوني في خبرة الكتابة الشعرية سنوات خمس أو ست. وهي فترة كفيلة بنقلات شعرية كبيرة في الرؤية والتقنية، خاصة في المرحلة المبكرة لأي شاعر. أضف إلى ذلك أن هؤلاء الأصدقاء قد خاضوا غمار معترك سياسي، أيديولوجي لا يخلو من منافع في خبرة الكتابة، ولكنه لا يخلو من مضار كبيرة، احتاج أحدهم سنواتٍ للتعرف عليها، أو الاعتراف بها. ولم يحدث لي أن خبرت ذلك، على أني صرت أعرف مع السنوات مقدار الضرر الذي أفلتُّ منه عن وعي، أو غير وعي. ومقدار الجهد الذاتي الذي احتجته، لكي أوصل صوتي الشعري دون دعم إعلامي، عادة ما كان يوفره الانتساب الحزبي، أو حيوية العلاقات الشخصية داخل المعترك السياسي. فأنا لم أكن في موقع بعينه داخل خلافات اليسار السياسية، ولا آخر بعينه داخل خلافات اليمين. ولم أكن في موقع بعينه داخل النزعات الطليعية "الحية" و"الصاخبة"ن في الشعر والأدب. وتحت تأثير هذه الحال أصبحت في نظر كثيرين، من الفاعلين في معترك السياسة والأدب، كياناً يليق بصفة ساذج. أو بصفة "الحديث المحافظ" التي عثر عليها عبد القادر الجنابي بعد سنين، وثبتها بغبطة في كتابه عن الستينيين. أو بالصيغة الأكثر عقلانية التي وضعها خالد حين سماها "في حدود عمود الشعر الحديث".
اليوم، وفي نظر كثيرين، بدت كلُّ هذه الثمار اللفظية للمعترك "مع الآخر" باطلة، إن لم تكن بالغة الضرر على المستوى الفردي، والمستوى العام. وتبين لي مقدار النفع من ما أسميه المعترك الداخلي، أو المعترك مع النفس.
    من نتائج الخلاف بين المعترك مع الآخر والمعترك مع النفس أتبينه في مسألة التأثر والتأثير الشعريين. وهي مسألة أثارها خالد في أكثر من مكان في دراسته. في كل كتاباتي النقدية لم أُخفِ تأثري، في هذه المرحلة المبكرة من نشاطي الشعري، بالشاعرين السياب، أولاً، وأدونيس بعد ذلك. كنت اعتبرهما عموديْ ضوء، ولذلك استوقفتني ملاحظة خالد بشأن ما يراه قصوراً مني في تلك المرحلة من بلوغ ما أسميه خبرة السياب "الروحية"، وما أسميه صياغة أدونيس المدهشة، وهو أمر أجده بالغ الطبيعية. ولو كانت تجربتي الشعرية تعتمد معتركاً مع "الآخر" لكنت ربما أميلُ إلى رفض فكرة التأثر، وأحرصُ على فكرة التزاحم.
    كنت أعتقد، وما زلت، أن التأثر عنصر شاعرية ناضجة. ولا أثق بالأفكار النقدية الشائعة عن ضرورة "المختلف"، و"الجديد"، و"البكوري". القصيدة لديّ خبرة مُضافة دائماً. وعادة ما أصف شعوري، وأنا أكتب قصيدتي، بأني أجلس، بالغ الحساسية في التأثر، في ظلال الشعر الانساني، عارياً من الزمان والمكان. يمسني جلجامش، لحظة الكتابة، كما يمسني لوكريتيوس، كاليداسا بصحبة القرآن و لمسة أبي العلاء، مُشرّيةً بلمسة أبي الطيب وأبي نؤاس وابن الرومي، مضمخة برائحة عبد الصبور، السياب، البريكان، أدونيس، سعدي يوسف، يوسف الخال  مروراً بمعظم شعراء جيلي، والجيل التالي عليه. حتى أني لأكتشف بعد كتابة القصيدة تلك اللمسات على هيئة كلمات، أو صيغة في جمل، أو ظل من إيحاء. يملأني هذا غنى، ولا أشعر بالحرج.
    لا بد أن هذا الأمر سيثير خلافاً آخر بيني وبين خالد، بشأن "الذاكرة" و"المخيلة" في التجربة الشعرية. فقد اعتمد في دراسته على مفاضلة بين القصيدة التي تعتمد "المخيلة"، وقد وجدها عندي في مرحلة الإقامة في الوطن، والقصيدة التي تعتمد "الذاكرة"، في مرحلة المنفى اللندني. وقد انتصر لهذا السبب لقصيدة الوطن، أو قصيدة "المخيلة". والتقاطته لا شائبة فيها، ولكني على خلاف بشأن المفاضلة. إن "المخيلة" و"الذاكرة" عنصران جوهريان في بناء النص الشعري. وكل قصيدة تتمتع بتأرجح الميزان بين الكفتين. ولعل الظرف الخارجي والداخلي للشاعر يلعبان دوراً في هذه الأرجحة، لا دوراً في المفاضلة. فالمفاضلة نتاج المعيار النقدي، والذوقي.
    إن نشاط "الذاكرة" داخل قصيدتي لم ينوجد، أو يستيقظ فجأة في زمن "المنفى" اللندني. لقد كان حياً منذ "حيث تبدأ الأشياء". إن مراجعة سريعة لقصيدة "شجرة الحلم"، التي اختارها خالد في ملحق كتابه، كافية لملاحقة أثر "الذاكرة" الناشط، وقد لاحقها خالد نفسه. على أن "المخيلة" هي عماد شاعر مازال في مقتبل العمر، ولم يثقل على وجوده زمن ماضٍ بعد. وطبيعي أن يستحوذ أثر "الذاكرة" على النص الشعري، في منفى يبدو فيه الحاضر تعاقب لحظات خاطفة، في حين يمتد الماضي بسعة وجلال لا سبيل إلى تحاشيهما. ثم أني في عمق هذا المعترك الداخلي مع النفس، عادة ما أجدني كثير الحذر مع "المخيلة"، المعرضة لأن تزلق فوق سطح المجازات اللغوية، باتجاه "الاعتباط" و"المجانية" التي أجدها عند فاضل العزاوي وأدونيس وكثيرين معهما. في حين أجدني أقلَّ حذراً مع "الذاكرة"، التي قد تزلق بدورها على سطح الحنين، باتجاه "الميوعة العاطفية". ولقد نبه لذلك خالد علي مصطفى بقوله: ".. يظل الشعر لدى فوزي واقفاً بين حدين: حد الانبثاق الشعوري التلقائي من نوازع القلب، وحد الرقابة العقلية التي تحول دون أن يتحول هذا الانبثاق إلى "سيولة عاطفية".."(ص113)
    إن هذا الميل إلى الماضي هو ميل في الموقف الفكري، والموقف الابداعي معاً. إن شاعر المعترك مع "الآخر"، عادة ما يجعل من حاضره مطية للمستقبل، مثل أي رجل فكرة، وعقيدة. شاعر المعترك الداخلي عادةً ما يكون ميالاً إلى الماضي وميلُه هذا في الطبيعة الشخصية أيضاً. إن "ذاكرته" في القصيدة دعمٌ دائم لـ "المخيلة". في حين قد تعجز "المخيلة" عن دعم "الذاكرة". هذا الشاغل لم يقتصر على كتابتي النقدية، بل تسلل إلى نصوص من شعري أيضاً. أذكر قصيدة بعنوان "الذاكرة والخيال، دراسة" تعالج الأمر شعرياً كما يلي:
نقيصةُ ذاكرتي ميلُها للحنين إلى ما مضى، والخيالْ
نقيصتُه عندما يتجاوز حدَّ المُحالْ.  
وبينهما أترنّح، شأنَ القصيدة في داخلي،
شأنَ تلك القصيدة.
أحاولُ دونَهما لحظةَ الحاضرِ
تُطلُّ، وسرعان ما تتلاشى، فلا الذاكرة
تُلوثها بدمٍ دابرِ
ولا بدمٍ قابلٍ صبواتُ الخيالْ.
الانتصار إلى الذاكرة، إذن، لم يرد اعتباطاً داخل نصي الشعري. وأعتقد عن وعي بأنه يشحن قصيدتي بالقوة. وعلى هذا اعتقد أن قصائد المنفى، في أكثرها، تحتاج إلى أكثر من قراءة لهضم هذا الجانب. إن ما يُفكر داخل قصيدتي، قد يبدو لخالد ولآخرين إضعافاً لما يغني داخلها. ولي كتابٌ يصدر قريباً بعنوان "القلب المفكر"، يحرص على تعزيز فكرة "أن القصيدة تغنّي، ولكنها تفكّر أيضاً"، وهو عنوان الكتاب الجانبي. الزمن الماضي له حظوة خاصة في قصائد المنفى بالتأكيد. إنه ينبوع لا ينضب لإغناء المخيلة في القصيدة، إلى جانب إغناء العاطفة، ونزعة التأمل. صحيح أن الماضي هو حبٌّ مُفتقد. ولكن من قال إن الحبَّ المُفتقد لا جذوة فيه، ولا احتراق؟ ثم أن هذا المنفى، الذي لا يكفّ عن الحضور، منفى بالغ الغنى في ذاته: في مخيلته، وعاطفته وعمق المعرفة فيه. إن مجرد المشي على أرصفة لندن تغذي المخيلة، والعاطفة، والمعرفة بكرم لا طاقة لي على إنكاره. حتى المعترك الداخلي لدى المنفيّ، الممزق بين حاضر يدفعه دون رأفة إلى المستقبل، وحاضر يدفعه دون رأفة إلى الماضي، هو مُعتركٌ معبّأ بالوعد الشعري. إن "قارات الأوبئة"، وعشرات القصائد الأخرى، التي تُرجمت إلى الانكليزية وغير الانكليزية، وجدتْ احتضاناً نقدياً أعطاني من المسرة والغبطة ما عوضني عن كثير مما أفتقده. بالرغم من أني لا أطمع إلا بقارئ واحد يُحسن الحوار مع قصيدتي، فهو يُغنيني عن جمهور المهرجان، وبخلوة تُزهّدني بأضواء الإعلام. وإذا كانت هذه فضيلةً، فهي فضيلة المنفى بالدرجة الأولى، وفضيلة الطبع بالدرجة الثانية.
    ثمة شيء آخر أشعر أن الدكتور خالد لم يُعطه حقه من الفهم، يتصل بالمذهبين الشعريين: البغدادي والشامي، الذي فصلت فيهما في كتابي :"ثياب الامبراطور". إن كل الشعراء الذين رأيتهم ينتسبون إلى المذهب البغدادي، إنما تباعد بينهم أصواتهم الشعرية المتفردة. صوت السياب يختلف عن صوت البريكان في فرادة كلًّ منهما. وكذلك الأمر مع أبي نواس وابن الرومي. يحدث الشيء ذاته مع من رأيتهم ينتسبون إلى المذهب الشامي. ففرادة أبي تمام تختلف عن فرادة أبي الطيب. وفرادة فاضل العزاوي تختلف عن فرادة سامي مهدي. الذي يجمع شعراء المذهب البغدادي هو اعتماد الخبرة الداخلية من قبل الشاعر، ولا هيمنة لـ "الغرض" الشعري على تجربته هذه. لقد ميزتُ لهم خصائص تحت اسم "شعراء المتاهة"، لأن قصيدتهم تبدأ رحيلها الداخلي، دون فكرة مبيّتة تسبقها. "شعراء الراية" ينسجون قصائدهم تحت ظل فكرة، عقيدة، أو غرض ذي حضور مسبق. لقد طلب أبو العتاهية بتذلل من أبي نواس أن لا يكتب في "الزهد"، فيُفسد عليه انفراده به. أبو العتاهية تعامل مع الزهد كـ"غرض" شعري، يعلو قامته مثل راية. وهو في كيانه الانساني لا شأن له بتجربة الزهد، التي خبرها المتصوفة، وأبو العلاء. أبو نواس خبر متعةَ الحواس، ومع الشيخوخة داهمه الإحساس بالذنب، والخوف من الموت، فأراد أن يتزهّد. ولعله لم يوفق في ذلك.
    شاعر المذهب البغدادي يمكن أن يكون حسياً كأبي نواس، أو كياناً ملتبساً كابن الرومي، أو مفكراً كأبي العلاء. هذا الاختلاف بين أصواتهم حاضر في كل قصيدة. أما الاهتمام باللغة والتقنية فأمر تتطلبه كتابة الشعر في كلا المذهبين. قد أنتفعُ أنا من أدونيس في طلاقته الغنائية، أو من البياتي في تركيبة جملته القصيرة المباشرة. ولكن هذا الانتفاع لن يجعلني أكتب قصيدة وفق غرض مبيّت، أو هدف مخطط له، أو وفق "أنا" متعالية على الاخر، بفعل معتركها مع الآخر، أو بفعل نبوّتها، التي تُفردها عن القطيع..الخ. لأني لو فعلت ذلك لانتسبت إلى مذهبهم الشامي. شاعر المذهب البغدادي، مع تفرده كصوت شعري، منسجم مع كثيرين في اعتماد نوازعه، ورؤاه الداخلية. لا "يحارب جيشاً من فوارسه الدهر" مثل المتنبي، لأن صراعه مع ذاته الداخلية وحدها، مع "المهجة التي هي ضدٌّ يحاربه" مثل أبي العلاء، فيستحيل عليه أن يستتر منها. وهو ذاتٌ تتصاغر أمام الأسرار الكبرى، وتعترف في كل فرصة بأنها "خرقةٌ تُخاط إلى الأرض"، وأن تواضعها ليس فضلاً على أحد. إنه "الذي يتصاغر حتى لأدنى الثواني تَحار بمقدار حجمه.."، و"من حفر الحصباء ونام/ وتغطّى بالآلام.." وهو "المسيح يجر في المنفى صليبه..".
    إن الفقرة التالية من كتاب "شعراء البيان" أعطتني هذا الشعور بالالتباس عند خالد:
"إذا كان فوزي يميل إلى السياب.. فإنه لا يُنكر "الصياغة الشعرية المدهشة".. المشبعة وجدانياً بالموروث في شعر أدونيس...ومع أني غير ملزم بما يقوله فوزي عن نفسه، لم أجد في دواوينه المنشورة، شيئاً يذكر بالسياب...
    "إن دواوين فوزي "العراقية" تشيع فيها رائحة أدونيسية لا شك فيها، ولاسيما في (أرفع يدي احتجاجاً)، ولكن علينا أن نكون حذرين من هذه الرائحة؛ لأن وقوف فوزي، في منتصف الطريق، بين بغداد والشام، قد أفقد شعره شيئاً من"الخبرة الروحية" التي كانت للسياب ومن الصياغة "الشعرية المدهشة" التي عليها شعر أدونيس." (ص124 ــــ 115)
لقد غفل خالد حقيقة أن قصائد (أرفع يدي احتجاجاً) قد كُتبت في نهاية الستينيات، ومطلع السبعينيات من القرن الماضي، أي في مرحلة التأثير الأدونيسي، وأن كتاب "ثياب الامبراطور" النقدي نُشر في عام ألفين، أي بعد ثلاثين عاماً من اتضاح الرؤية والنضج. وتأثيرات السياب وأدونيس في تلك المرحلة المبكرة حقيقة اعتز بها حتى اليوم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram