يرى الغريبُ العالمَ حقيبةً محشوّةً بذكرياتٍ/ فاقدةٍ الصلاحية./ بندولٌ أزليٌّ بينَ يدِهِ اليسرى ويدهِ اليمنى./ ينامُ وكتابُهُ مفتوحٌ فوقَ صدرِهِ/ يستيقظُ وكتابُهُ مفتوحٌ على صدرِه./ لَهُ بلدٌ وَلَيْسَ لَهُ وطنٌ./ يحاورُ أشباحاً على مدارِ الساعة/ ويندمُ على خسارةِ معاركَ لم يخضْها كما ينبغي./ يحدثُ أن يكونَ الغريبُ شاعراً/ يعشقُ أوّلَ امرأةٍ يصادُفها في الطريقِ/ ليتركَها في منتصفِ الطريقِ./ سألتْهُ امرأةٌ: لماذا تركتني في منتصفِ الطريقِ؟/ ردَّ: النساءُ قصائدُ كلّما كتبتُ قصيدةً فكرتُ بأخرى./ الغريبُ قد يكون أحمقَ،/ وتلكم واحدةٌ من حماقاتِهِ الأصيلةِ./ والغريبُ قد يكونُ حكيماً/ لأنه يدركُ أنه أحمقُ./ والغريبُ زرزورٌ يضربُ نَفْسَهُ بالجدارِ/ لأنّهُ مسكونٌ بكلّ ما خلفَ جدارْ،/ فضوليٌّ من طرازٍ رفيعٍ./ يتّهمونَهُ بأنّهُ يفحشُ في القولِ/ ولا يتّهمونَ أنفسَهمْ بأقنعةِ الفضيلةِ. / هو يلفّقُ الواقعَ ليكونَ خيالاً/ وَهُمْ يلفّقونَ الخيالَ ليكونَ واقعاً،/ تلكَ هزيمتُهمْ المنكرةُ/ وذلكَ ظفرُهُ الوحيدُ./ الغريبُ، أخيراً، نبيُّ بلا أيّ الله،/ فلا يُؤْمِنُ بهِ أحدٌ،/ لأنّ لا جنّةَ لديه،/ بل الجحيمُ/ الجحيمُ عينه.
****
الغريبُ عرفانيٌّ لخروجه من دورة اليوم مدار العالم. يخرج من جسده ليرى روحه على مبعدةٍ كي يتأملها ويعتني بندوبها، وهو بين الجسد والروح كمن يقف على الحدود بين وطنه ومنفاه، أو منفاه ووطنه، فلا فرق، يكون المنفى وطناً والوطنُ منفى.
الغريب كائن وحيدٌ، حتى بين أقرب المقربين، فهو يخشى الآخر لأنه يتمم نقصانه، ويحسد المواطن الأصلي على نعمة المواطنة التي يفتقدها، غريباً وقريباً.
كتب الفرنسي لويس بيرش، عن مواطنه بول كلوديل: "بول كلوديل، الفرنسي حاد الطبع، يلجأ إلى الهرب من الإنسان ليقترب أكثر من الحيوانات والنباتات والفصول العارية، كلياً."
يصف فيرلين في السجن بعد محاولته قتل رامبو:
" إنه في حالة تامة من الذل والانهيار".
كانت الوحدة، بالنسبة له، عندئذ، نقصاً في السمو وعجزاً عن الخلق، والإنسان المغرق فيها لا يستطيع إتمام أي شيء، لأنه يتم نفسه بشكل غير كافٍ". (1)
تكشف هذه الرؤية، على أهميتها، أن الوحدة، اذا كانت خياراً لذاتها، سلوك سلبي لأنها تعطّل عملية الخلق، لأنها تُفقد المتوحد، الغريب، المغادر للجماعة، تفاعله المفترض مع العالم المحيط، لكنها (الوحدة/ الغربة يمكن ان تكون نوعاً من البهجة/الجنّة عندما يكون "الآخرون هم الجحيم" على حد قولة جان بول سارتر الشهيرة.
في الوحدة، التي هي وجه من وجوه الاغتراب والغربة وتفرعاتها، يكتسب المرء مهارات عظيمة في خوض حوارات منتجة مع نفسه، ومع العالم، حتى لو حاور أشباحاً من صناعته.
كانت غربة فيرجينيا وولف، الإنكليزية، شاعرة الروائيين وروائية الشعراء، ألهمتها طريقة النظر إلى العالم على أنه بحاجة إلى علاج من أمراض مزمنة. هي توقفت عن الكتابة عندما بلغت تلك الدرجة من العجز عن علاج العالم، حتى سقطت صريعة مرض العالم المعاصر: الكآبة.
في رسالتها الوداعية إلى زوجها، قبيل انتحارها، قالت: "لم أعد أحتمل.. أنا على يقين بأنني سأجنّ.. لقد بدأت أسمع أصواتاً وفقدتُ قدرتي على التركيز، لذا سأفعل ما أراه مناسباً". أي الانتحار". (2).
الجنون هو موقف لا إرادي إزاء عقل العالم. لكنه نتيجة طبيعية لمعاناة ذوي الأرواح الحساسة وهم يَرَوْن إلى العالم بعاطفة استثنائية.
****
ما أشدّ غربتِهِ
الشاعرُ
عِنْدَ منصّةِ المهرجانِ.
(1) لويس بيرش، كتابه "بول كلوديل". ترجمة حسيب نمر.
(2) مقدمة المترجم توفيق الأسدي. روايتها "أورلندو".
في الغربة والغرباء
[post-views]
نشر في: 13 يونيو, 2016: 09:01 م