TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الغيرةُ الوطنيّةُ متى تخلّت عن العراقيين؟

الغيرةُ الوطنيّةُ متى تخلّت عن العراقيين؟

نشر في: 14 يونيو, 2016: 06:46 م

كان الواحد منّا أيام زمان، ما أن يُعَرّض أحدٌ ما بغيرته على وطنه حتى  يشتاط غضباً، وفي حالات معينة يبلغ استياؤه حد استعمال اليدين واللسان، وقد يُغمى عليه من الانفعال. كان الوطن، وكانت الوطنية، قيمة أسمى من أثمن ما للإنسان من قيمة أخرى، إذ كان يُضحّي بها في سبيلهما.
لم تكن الوطنية في ذلك الزمان، أرضاً وحدوداً وتضاريس وأنهاراً وما فوقها أو تحتها من ثروات، بل معنىً مُضمرٌ يتجلى في كل ما نتنفسه ونراه ونتلمسه ونحسّ به وتتشنّف به أسماعنا. وكنا نعبِّر عن ذلك المعنى بالوجدان والضمير والشرف ونراه طيفاً يراودنا في أحلامنا الجميلة، ويعدنا بجناتٍ في الأرض، فوق أرضنا نحن، وفي وطننا نحن، فلا جنان في غير وطننا، ولا مستقبل بغير وطننا، إنه وطنٌ يختزل كل الاوطان، ويجسّد كل الاحلام ..!
في تلك الايام الخوالي، كان عيباً قبيحاً أن تتحدث أو تفكر، مجرد التفكير، بالهجرة الى أوطانٍ أخرى. كان عيباً أن تذهب الى الدراسة في بلاد الفرنجة ولا تعود لتخدم في وطنك. ومثل الفلاح الذي يشعر بالعار أن يتخلّى عن أرضه، وإن كانت سبخة، كان العراقي يحسّ بالعيب أن يغدر بوطنه فيهجره ويتخلى عن جنسيته وناسه ليفاخر بأنه صار كبيراً في بلدٍ غير بلده. وهو في نظر الناس صغيرٌ ليس له مكان وسط أهله وذويه ومعارفه لأنه صار "خواجة" يتفاخر بغير وطنه وأهل بلدته، وإن كانوا حفاةً ، شُبه عراةٍ، يفترشون الارض وأديمها، ويلتحفون السماء وفضاءها.
وجاءنا يوم ليصبح الوطن "عاهةً" نسبّها ونستعير كل شتائم الأمم الأخرى لنلصقها به جهاراً  ليل نهار، ونتفنّن في البراءة من "قيمته"، ونتساءل عما إذا ظلت له ثمّت قيمة حقيقية يمكن أن نبقيها له دون أن نخشى ملامة كل من يحيط بنا سواءً بسواء. لا فرق بين فقير وغني، حاكماً أو محكوماً ، إرهابياً أو ميليشياوياً، سنياً أو شيعياً. فقد بات طاعوناً لم يُكتَشف له علاجُ حتى الآن.
وشيئاً فشيئاً، بات الوطن نفسه يبكي على حاله لأنه لا يستطيع التخلي عن ذاته، أو تغيير هويته أو الهجرة الى حيث يمكن أن يستعير له اسماً آخر يُخفي فيه داءه ومحنته، ويحتمي به من مكاره صارت تأتيه من كل صوب، ولا يمانع أن يصير مكبّاً للنفايات لعلّه يُطمر تحتها، ويعافه الناس، وقد يأتي عليه زمن يتفتح على مساحة وطن تفوح من جنباته عطور الياسمين والرازقي والشبّوي، وتغرّد في سمائه كل طيور الدنيا المهاجرة لتحتمي به.
وأي وطنٍ يتمنى أن يكون مكبّاً للنفايات الآتية من كل أرجاء العالم غير وطننا الذي غاب عنه ما هو فيه، فأيّ نفاية يتمنّاها وهو يغوص في مساحة منها تكفي مكبّاً لكلّ أوبئة العالم ويفيض ..!
أكتب هذا وأنا أقرأ أجمل تجسيدٍ لما صرنا عليه: كاركاتير ذكيّ، يظهر فيه الشيطان وهو يرمي ساستنا الحجيج صارخاً: أنا أخجل مِن كل ما تفعلونه في وطنكم ..!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram