اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > "سوق الأمانة" في الرشيد.. "مول" الفاكهة الأول

"سوق الأمانة" في الرشيد.. "مول" الفاكهة الأول

نشر في: 18 يونيو, 2016: 12:01 ص

عندما شرع "خليل باشا" والي بغداد العثماني (1915-1917)، وقائد الجيش في العراق بتنفيذ فكرة مستشاريه الالمان بشق شارع عريض نسبيا في صميم النسيج البنائي المتضام ببغداد، ما بين باب المعظم وجامع سيد سلطان علي، بغية إيصال المعدات العسكرية ونقلها بأمان وبسرع

عندما شرع "خليل باشا" والي بغداد العثماني (1915-1917)، وقائد الجيش في العراق بتنفيذ فكرة مستشاريه الالمان بشق شارع عريض نسبيا في صميم النسيج البنائي المتضام ببغداد، ما بين باب المعظم وجامع سيد سلطان علي، بغية إيصال المعدات العسكرية ونقلها بأمان وبسرعة من شمال المدينة الى جنوبها؛ لم يدر في خلده بأنه بذلك سيفتح المجال واسعا امام نهضة معمارية كبرى سيشهدها، لاحقاً، الشارع "الجليل" (وليست لدي كلمة أخرى، تضاهي دلالات الكلمة المستخدمة هنا، اعراباً عن حبي، وولعي، وافتخاري بهذا الشارع ومنزلته الحضرية الفريدة!)

سيدعى الشارع، الذي سيفتح يوم 23 تموز 1916 (تنوي الأوساط الثقافية والحضرية الاحتفاء بمئوية الشارع هذا العام 2016)، سيُدعى بعضا من وقت بـ "خليل باشا جادة سي" ثم سيدعى "بالجادة العامة"، وسمي أيضا "بشارع هندنبرغ" قبل ان يدعى "بالرشيد" سنة 1932، تيمناً بتلك الفخامة التي لازمت اسم الخليفة العباسي وزمانه المترع بالأمجاد. وعلى مدى قرن من الزمان، قرن كامل من السنين العديدة، سواء كانت ملهمة او عجافا، ظلت عمارة الشارع تمثل "ألبوماً" مفتوحا لأنماط معمارية متنوعة، اجتهد غالبية معماريي العراق المهمين في ان تكون تصاميمهم حاضرة ومؤثرة في بنية هذا الشارع المهم.
كان الشارع، اذاً، لأهميته العمرانية الكبرى، وحداثة ظهوره، قادراً على استيعاب مقاربات معمارية حداثية، وان يكون حاضنةً لها. من هنا، يمكن إدراك سهولة التجريب التصميمي وغياب "وجل" نزعات التوظيف للتيارات الجديدة، بل والتباهي بدعوتها و"إغوائها" لتكون حاضرة بقوة في عمارة الشارع الجديد. ولئن شغلت فضاءات الشارع واحيازه الجديدة المصممة حديثاً، وظائف معروفة وحتى تقليدية، فإنها ايضاً، كانت امكنة لمهن لم تعرفها المدينة سابقاً، او بالأحرى لم تتعرف العاصمة على طبيعة اشغالاتها الحديثة. من ضمن تلك الاحياز الجديدة التي تضمنتها عمارة الشارع، "سوق الأمانة" الواقع ما بين شارعي "الاكمكخانة" (شارع الفرن العسكري: شارع المتنبي حاليا)، وشارع المأمون، الموصل الى جسر الشهداء؛ ذلك السوق، الذي عُدّ بمثابة "مول" العاصمة الاول الخاص بالفواكه والخضراوات.  اوكل تصميم "السوق" وتنفيذه الى واحد من أبرز معماريي الحداثة حينذاك، وهو: "نعمان منيب المتولي" (1898-1961)، وذلك في عام 1929 (يشير التاريخ "المسجل" في اعلى واجهة المبنى الى التاريخ الهجري <1348>، في حين تظهر "الرخامة" الموجودة في اعلى المدخل سنة التاريخ الميلادي <1929>). حينما باشر المعمار، ذو الثقافة الرفيعة، هو المولود في تركيا العثمانية، في اعداد تصاميم مبناه المكلف به، كان يتوق ان يكون منجزه التصميمي ليس فقط جديداً في لغته المعمارية، وإنما لافتاً ايضاً، يتساوق حضوره مع خصوصية الشارع الجديد وأهميته الحضرية.
ولهذا، فإن المصمم، وإن اعتمد على حل تكويني لشكل مألوف لمبناه، (مرسياً عند شكل "القيصرية" التجارية). فإنه نشد، في ذات الوقت، ان يعوض تلك "التقليدية" المحافظة، بَنفَس تجديدي معاصر. وهو ما قاده الى توظيف منطقة الواجهة، وبالذات عناصر معالجاتها التصميمية لجهة استخلاص تأثيرات جمالية مؤثرة منها ثمة "مدخل/شارع" عريض وعميق تشغله دكاكين عديدة، محاط بثلاثة "مجالات" Bay، واحد من جانب واثنين من الجانب الاخر. حافظ المعمار، بمستوى الطابق الأرضي، على وجود الممر المسقف "الرشيدي" المألوف، الذي بات يمثل "مفردة" الشارع التخطيطية وعلامته المميزة الفارقة. في حين امتدت فضاءات الطابق العلوي نحو الأمام، مُلحقةً فضاء الممر الأسفل الى احيازها، بالإضافة الى استحداث تطليعة وسطية، هي بمنزلة شرفات طليقة (بالكونات) في الطابق الاول. ومع ان مساعي المعمار اتسمت على طزاجة تصميمية، الا انها بقيت تبدو كمحاولات مألوفة وعادية ومتداولة في تصاميم العديد من مباني الرشيد المشيدة حديثا؛ الامر الذي حدا به ان يزيد من "جرعة" التجديد للوصول الى مبتغاه. وفي سبيل ذلك، فإنه استطاع ان يجد في العنصر المحدد لنهايات الواجهة، مسوغا لتوظيف “موتيف" معين، مستقى من العمارة "الرنصانصية": عمارة عصر النهضة، يتمثل في تطليعة افقية قصيرة "محمولة" بعناصر متكررة وناتئة من سطح الجدار مهمتها تأشير نهايات التكوين للسطح الواجهاتي الخاص بالمبنى. جدير بالإشارة، ان المعمار سعى وراء التركيز على "مجال" Bay المدخل المركزي، وزيادة التعريف عليه بصرياً، عن طريق تعقيد شكل الموتيف "الرنصانصي" هذا، مقارنة بذلك الاستعمال البسيط والواضح الذي يتوج أعالي المجالات الأخرى. بيد ان استخدامه غير المسبوق لما يعرف بـ "نافذة بالاديو" Palladio Window، كان فعلا امراً جديداً، مدهشاً، ولافتا في آن معاً. وهذا العنصر التصميمي الذي اشتهر باسم معمار عصر النهضة "اندريا بالاديو" (1508-1580) Andrea Palladio (وان لم يكن هو، ذاته، الذي "اخترعه"!) أمسى عنوانا للبذخ والفخامة، واستعمل كثيرا في قصور الملوك وامراء اوروبا على وجه الخصوص. تتشكل مفردة "نافذة بالاديو" من تجميع نافذة وسطية ذات قوس في أعلاها، تحيط بها من الجانبين نافذتان ذات شكل مستطيل تكونان، عادة، بأبعاد أصغر من قياسات النافذة المركزية.
لا يتوانى "نعمان منيب المتولي"، في تأكيد حضور "مفردته" التكوينية (نافذة بالاديو)، في صياغة وتشكيل واجهة مبناه، بل ويمعن في توظيفاتها، جاعلاً منها، المفردة التصميمية الأساسية الخالقة لجماليات تلك الواجهة واهباً بذلك المنتج المعماري المحلي نخبوية لم يكن موعوداً بها. وهو بهذا الاستعمال، فإنه لا يخشى من واقعة تكرار استخداماتها. وهي تبدو بشكلها المميز، والباذخ، والفاتن متواجدة في جميع سطوح "مجالات" المبنى الأربعة. انها تتراءى مزهوة ومختالة بنفسها، تحمل قوتها التصميمية في ذاتها وتضفي من فيض جمالها قيمة استطيقية عالية على عموم المبنى. انها تطالعنا بهيئتها الخاصة: متميزة تماما، ومتفردة تماما، خالقة لدينا حب استطلاع جارفا في التقصي عن مرجعيات تلك العناصر التصميمية المرئية... و"الغريبة"، القادرة على منحنا كل هذه المتعة المغموسة بالدهشة!  
لا يتعين، بالطبع، رؤية المبنى في وضعه الحالي، وانتظار اثارة ما جمالية كبرى تبعثها عمارة المبنى. فما لحق به من تشويهات "شعبوية" مبتذلة، (لم تقدرّ قيمة الشغل المعماري الناجز بحكم نوعية "ثقافة" مالكيها الجدد)، احالت تلك العمارة المدهشة الى محض بناء "سوقي" بذيء. وقد تذكرّ بعض تفاصيله المتبقية الفاتنة بذلك الرونق التصميمي، الذي طبع يوما هذا المبنى "الرشيدي" المهم، مبنى "سوق الأمانة": مكان التسوق الاثير للفاكهة والخضرة لدى النخبة البغدادية!
واسم معمار المبنى، كما اشير، هو "نعمان منيب المتولي"، وهو اسم مركب، ولد في اسطنبول عام 1898، لأب من اصول بغدادية، وأم تركية. كان والده مصطفى أفندي "متولياً" لجامع الامام الاعظم في بغداد، بنهاية القرن التاسع عشر. وقد نشب عراك بينه وبين الوالي العثماني، ما اضطر المتولي ان يضرب الوالي بخرطوم أرجيلته، محدثاً شقا غائرا في رأسه. وعلى اثر ذلك نفي المتولي الى اسطنبول، جراء فعلته غير المسبوقة، حتى لا تكون ثمة فضيحة آخرى، تنجم عن إعدامه، وهو "المتولي" لجامع معروف يحظى بأهمية خاصة لدى كثر في انحاء عديدة من الدولة العثمانية. وفي اسطنبول تزوج المتولي من سيدة تركية، انجبت له بنتين وولدين، أحدهما نعمان منيب، الذي قرر الرجوع مع والده بصحبة احدى شقيقاته، الى بغداد عقب انهيار الحكم العثماني بعد الحرب العالمية الاولى. كان نعمان منيب شابا متعلما ومثقفا عندما وصل الى بغداد، مطلعا على تنفيذ الرسوم المعمارية، وممارسا للتصوير الفوتوغرافي، بالإضافة الى مقدرته العزف على الآلات الموسيقية. عمل مع احدى الهيئات الاستشارية المعمارية الانكليزية العاملة في بغداد، كخطاط ورسام، وأُدخل لموهبته، عدة دورات تدريبية هندسية ومعمارية، وفي فترة قصيرة برز، كما يقول رفعة الجادرجي، الذي اورد معلومات عنه، في كتابه "الاخيضر والقصر البلوري" ص. 503، <كأول مهندس معماري عراقي>. وبمؤهلاته تلك، تم توظيفه في العمل كمساعد الى المعمار الانكليزي ولسون، عندما كان الاخير منهمكاً في تنفيذ مباني جامعة آل البيت بالأعظمية (1922-24). كما شغل نعمان منيب وسيطاً بين ولسون، والاسطوات العراقيين، العاملين، وقتذاك، في اعمال تشييد الجامعة. وله تعود فكرة الكتابة الأجرية وتنفيذها في اعلى افريز الكلية الدينية للجامعة. صمم عدة مبان عامة في بغداد وفي كافة ارجاء العراق، كما صمم الكثير من الدور السكنية في الاعظمية وفي مناطق مختلفة من بغداد. ويقال، بحسب بعض المصادر (فريد حنظل، ورفعة الجادرجي من بينها)، بانه صمم <سينما الزوراء> بالمربعة في شارع الرشيد (واتمنى، مخلصاً، ان تمتلك تلك المقولات صدقيتها. لست بمشكك؛ بيد اني تواق لجمع مصادر أخرى، توثق لذلك. فـ "تابلوجية" المبنى، واسلوب مقاربته المعمارية، ومفرداته التصميمية، هي من الاحداث، التي أعدها، فائقة الأهمية، في منجز الحداثة المعمارية العراقية)، لكنه، من جانب آخر، وبالتأكيد، هو مصمم سينما الاعظمية، التي ازيلت، مع الاسف، مؤخراً. صمم وأشرف على دار توفيق السويدي بالصالحية، ودار ناجي الخضيري في الاعظمية، ودار سلمان الشيخ داود في شارع ابي نؤاس، كما صمم مبنى اخر في الرشيد، بالقرب من سينما "روكسي"، وفندق الامير، ومبنى "جمعية الطيران" في بغداد (الذي ازيل، واحتفظت الساحة، التي كان يطل عليها، منذ ذلك الوقت، باسم مبناها المميز: ساحة الطيران). عين مدير اشغال المنطقة الوسطى في لواء الحلة، بعدها عين كمهندس معماري في أمانة العاصمة. احيل التي التقاعد في بدء الخمسينات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram