كان لفرانز كافكا حظه المتميز في أن ينشأ منفياً مرتين من موطنه مدينة براغ، نظراً لأنه كان يهودياً يتكلم الألمانية في مدينة تتكلم اللغة التشيكية ومليئة باللاساميين ( المعادين لليهود ). ومع هذا لم يتدبر، وهو في برلين لسنتين قريباً من نهاية حياته، أمر ان
كان لفرانز كافكا حظه المتميز في أن ينشأ منفياً مرتين من موطنه مدينة براغ، نظراً لأنه كان يهودياً يتكلم الألمانية في مدينة تتكلم اللغة التشيكية ومليئة باللاساميين ( المعادين لليهود ). ومع هذا لم يتدبر، وهو في برلين لسنتين قريباً من نهاية حياته، أمر انتزاع نفسه من " مخالب " مدينة الألف قمة " ذات الطابع المزاجي التنويمي " التي تعتبره الآن من بين أشهر سكانها، كما جاء في مقال الكاتبة ريبيكا شومان.وفي موته، كانت علاقته بـ " المدينة الذهبية " بنفس التعقيد تقريباً ــ إذ أنها ، في الواقع، تبدو ماليةً في الأول، حين تؤدي أعماله المليئة بالألغاز إلى تجريد حشود السيّاح من نقودهم في المتحف، والمكتبة، والمقهى، والمتاجر التي تحمل اسمه أو وجهه الكئيب الحاد العينين. وعلى كل حال، فإن التشيكيين يزعمون أن كافكا كان على الدوام شيئاً له مغزاه ــ وليس فقط لأن التشيكيين نادراً ما جادوا بابتسامة على أي شيء آخر غير تورتتهم المحلية.
لكن جدياً : كيف سيكون شعورك لو أن أشهر كاتب من كتّاب بلدك كتب بلغة الناس الذين استعمروك وألحقوك بهم، ليس مرة واحدة بل مرتين؟ زائداً أن كتبه أصبحت، بسبب وجود اسمه على القائمة السوفييتية السوداء بعد انتفاضة براغ، محرمة في تشيكوسلوفاكيا ( جمهورية التشيك الآن، وربما تشيكيا قريباً ) حتى قيام الثورة المخمّلية عام 1989. سيكون من السليم القول إن أغلبية الناس الطيبين الذين يبيعون متجولين سلعاً عليها رسمه لم يقرأوا أبداً كلمة واحدة من روايته ( القلعة )، رغم تحديقهم بواحد مهيب حقاً طوال اليوم ــ وصمدوا للاعجاب المتودد، لدى سيّاح مثلي، بمزيج من حافز ساحق ( لكنه مكبوت ) للالقاء بي بعيداً عنهم.
وهكذا، ولعقود، وبالرغم من كونه واحداً من المؤلفين الناطقين بالألمانية الأكثر مقروئيةً على الدوام، فإن كافكا لم ينتسب أساساً إلى أحد، بأرشيفه المشتت هنا وهناك من العالم، في المملكة المتحدة، ألمانيا، وإسرائيل؛ في كل مكان، كما يبدو، إلا براغ، مع كفاحات على ما يظل من أوراقه مستمرةٍ للاشتعال على قارات متعددة.
لكن ذلك كله تغير الآن، بفضل تمثال كافكا الحركي الفاتن للفنان التشيكي ديفيد كيرني. والتمثال مصنوع من 42 طبقة من فولاذ عاكس للضوء لا يصدأ، تتحرك منها 38 طبقة. وقد مر عليه أكثر من عام في المكان لكنه أثار مؤخراً فضولاً عالمي الانتشار بسبب إرسال فيديو تمت تعبئته بالخطأ وأرسل إلى الفيسبوك حديثاً، وبلغ مشاهدوه أكثر من خمسة ملايين شخص.
وينتصب كافكا هذا بارتفاع 10 أمتار مُظهراً وجه المؤلف المميَّز، وأذنيه اللافتين للنظر، وحتى تسريحة شعره المفرَّق عند منتصف الرأس ــ ويبدو وجهه يحدّق بشكل دائم فوق الميدان والمباني المحيطة به معاً في سبالينا 22، ومع هذا ليس بساكنٍ أبداً أو ممسوكاً تماماً. ولا يشبه ذلك على وجه الدقة غير المحكمة الكلية الوجود، والغامضة مع هذا، التي تراقب جوزيف ك. بطل رواية ( المحاكمة )، عارفةً بدقة أين هو وماذا يفعل؛ حاضرة في كل من يحيطون به، من الموظفين الصغار الغافلين إلى العاهرات المراهقات، ومع ذلك غير قادرة أو غير راغبة في توجيه تهمة رسمية إليه.
ولا تبعد هذه القطعة الفنية عن مكتب كافكا القديم في " اتحاد ضمان حوادث العمال " في نا بوريسي 7 ( حيث عمل مديراً تنفيذياً رفيع الشأن، بالمناسبة، وليس موظفاً في القلم كما يقال )؛ كما أنه ليس بعيداً عن نوفا رادنيس، قاعة المدينة في براغ، حيث يذهب ملايين التشيك ليتوحلوا في بيروقراطية أوربا الوسطى الغامضة المتحجرة. ويجدر بالذكر أن التمثال " لا يحدّق " بقاعة المدينة، كما زُعم، بنوع ما من التوبيخ للبيروقراطيين ــ فهو فعلياً أمام متجر واسع mall. وقد قام بتمويل إنشائه هذا المتجر، في الواقع.
عن/ Slate