أتحدث عن ثقافة الكاتب او الرسام او ثقافة الكاتب المسرحي او المخرج السينمي او أي عامل في حقول الفن. ثمة أفق ثقافي لا بد من الإلمام بمفرداته، بنسب مختلفة، ليكون من بعد التأكيد على التخصص. فليس مقبولاً ولا ممكناً ان يجهل الاديب او الفنان، أي اديب، وأي ف
أتحدث عن ثقافة الكاتب او الرسام او ثقافة الكاتب المسرحي او المخرج السينمي او أي عامل في حقول الفن. ثمة أفق ثقافي لا بد من الإلمام بمفرداته، بنسب مختلفة، ليكون من بعد التأكيد على التخصص.
فليس مقبولاً ولا ممكناً ان يجهل الاديب او الفنان، أي اديب، وأي فنان، التاريخ العام لبلده وللعالم والتاريخ التفصيلي لفنه الكتابي او تاريخ الفن المتخصص به. يمكن ان يكون أدباً عائماً بلا جذور ولا أفق يمتد الى الماضي. في حال كهذه لن يكون له أفق يمتد الى المستقبل ايضا وحاضره سيكون قلقا، لا ديمومة له.
أي من الكُتاب الذين نقرأ لهم يعرف بدرجات متفاوتة الأدب الإغريقي وادب القرون الوسطى وعصر النهضة ويعرف أكثر تحولات الحداثة وادب اليوم. هذا المنطق هو نفسه للرسام وللنحات ولكاتب المسرح وللممثل والمخرج ، وهذا واحد من الأسباب المهمة التي كانت تجمع بين بعض الشعراء والمسرحيين والرسامين والمفكرين وتربط بينهم صداقات وتبادل رسائل وافكار.
امتلاك ادوات الكتابة – اللغة والاساليب ومفرداتها يبقى امتلاكا غير مجدٍ بلا فهم تاريخي وفلسفي وإحاطة بعوالم الفنون. التخصيص وحده والاقتصار على قوة امتلاك مفردات التخصص الكتابية او الفنية يمكن ان يُظهِر اسماء ولكنها بالتأكيد اسماء مرتحلة وآنية التأثير. الثقافات المساندة والمغذيّة لأي فن هي التي تمنحه القيمة العليا في الحاضر والقيمة المستقبلية. الاكتفاء بالاضاءات العابرة وبعيداً عن الثقافة والتاريخ والأفكار تحصر ذلك الكاتب او الفنان في زاوية العزلة والضمور. اللمعان الآتي خادع وليس دليل مستوى. لا احد يستطيع القول ان هرمان هسه يجهل التاريخ الأوروبي والأدب اللاتيني – بل وآداب اوروبا المعاصرة له. ولن نستطيع القول أن رامبو الذي لايبدو كذلك، ولكن قراءة رموزه التاريخية واللاتينية تشير الى تفاصيل دقيقة في الحياة وفي الثقافة. المثال أكثر وضوحاً في ريلكه ومن بعد اليوت .
بعيداً عن التبجحات والاستعراضات والاثارات السطحية، الكاتب المهم والشاعر المهم والفنان المهم، رساماً او مخرجاً سينميا، يحمل غنى مكتبه في رأسه. ولذلك يكون للكلمة وزن آخر يختلف عن الكلمة عند غيره. وتوالي الاحداث في رواية او في تراجيديا او تراجيديات متعددة، يفهمها الكاتب او الفنان العادي تكراراً لحدث ويفهمها المثقف، واسع الثقافة ومتعددها، فهماً آخر. مثلا كيف تفسر قتل أوديب لأبيه وقتل اوريست والكترا أمهما ويقتل اجاممنون ابنته وهو بدوره يُقتل ايضا؟ هنا انتقال الخطايا ومحنة الإنسان في التقدير، في الفهم واللافهم، في الرغبة وصعوبة النيل بلا إثم او تضحية. الافق اتسع عما سبق ويتسع أكثر عند عالم سيكولوجي وعند فيلسوف وعند عالم اجتماع. لكن ايضا سيكون فهماً ناضجاً لدى الفنان او الكاتب المطلع. المقهى لا يصنع اديباً. المكتبة تصنع كاتباً ورساماً ومخرجاً وكاتب سيرة ومؤرخاً وعالم اجتماع! المكتبة تقول لنا كيف انتقلنا من عالم الأهواء الإنسانية بعد ان عبرنا الإلهيات إلى الدنيويات في العصر الوسيط وحتى يأتي العلم الحديث – العصور الوسطى عاشت في المطلق وادبها وفنونها كذلك وعاش عصر النهضة الشك والحل وادبه وفنونه كذلك. ونعيش عصر الحداثة سعة العالم ومعرفة تفاصيله واحداثه وادب الحداثة وفنونها يشيران الى ذلك.
فهل يصح ان تكتب غنائيات بدائية او بعوالم العصور الوسطى او نعيد مقولات واساليب النهضة ونحن كتّاب يومنا وبيننا مساحات من التطور الإنساني والتحولات الاجتماعية والفكرية؟ بعيداً عن الكتابة بسذاجة مثل هذه وبعيداً عن اساليب فنية تجاوزناها. قد نبتسم لمن يرتدي زياً قديماً ولكنه لن يستطيع العيش به والعمل به والتجوال إذا لم يصبح اضحوكة او مبعث طرافة. ان يُستطرف او يضحك السامعين او القراء او المشاهدين. ليس هذا هو المجد. المجد في ان يكتشف لهم أفقاً آخر وان يريهم ما لم يكن مرئيا! احكم على أي شاعر، كاتب، فنان من محادثته، من رأيه وامتلاكه لتبصّر خاص، من نفاذه وراء الظاهرة متصلاً بمداها التاريخي. الفراغات الجوفاء تدمّر الفنون كلها.
يبدو بسيطاً عادياً قول برنر
القمر الشاحب يغيب خلف الموجة البيضاء
لا جديد. لكنه يثب الى مستوى آخر حين يكمل قوله فيكون:
القمر الشاحب يغيب خلف الموجة البيضاء
والزَمن يغيب فيَّ!
ما يبدو اعتيادياً منحه خبرة الذين يعرفون البحر، جعل منها تجربة مشتركة هي والانتباه القاسي لمضي الزمن في البحر ولا وصول. هكذا، نتحدث ببساطة شرط الا نكون ساذجين فيأتي الشعر حاملاً سذاجتنا! قد يرتضيه الأمي وغير المتخصص ولكن ليس هذا طموحنا حين نكتب او ننتج فناً. مع الثقافة والوعي ثمة شرط آخر هو معرفة العلاقات التشكيلية والا فلا ادب متماسكاً ولا أفق. أي لوحة هذه ستكون وأي سينما مفككة العلاقات؟
من مزايا عصرنا وتقدمه التقني انه خلق ثقافة وسطاً عامة من الثقافة. مرة بين ثقافة الجماهير وثقافة النخبة ومرة بين الثقافة الرفيعة، او ثقافة النخبة، والثقافة ما بعد الحديثة.
وهذا يبشر باتساع معدل فهم الكتابة الجيدة فهماً متقدماً وباتساع فهم وإدراك الفنون فهماً متقدماً. التقدم يزداد على المستويات كلها وبهذا يضيق مجال الكتابات الساذجة والفنون اللاثقافية وراءها. العصر يتقدم حضارياً تقدماً واسعاً والفنون عادة تسبقه في التقدم!