ذات ليلة من ليالي الشتاء، دوّت رصاصة من بندقية عتيقة لتنهي حياة أشهر كتـّاب القرن العشرين"أرنست همنغواي"، وكان قبل ذلك بساعات عجزَ عن كتابة عبارة واحدة لمقال لمجلة لايف. بقي الورق أمامه خالياً: "لم تعد الكلمات تأتي"، هكذا أخبر كاتب سيرته هوتشنر، ثم ب
ذات ليلة من ليالي الشتاء، دوّت رصاصة من بندقية عتيقة لتنهي حياة أشهر كتـّاب القرن العشرين"أرنست همنغواي"، وكان قبل ذلك بساعات عجزَ عن كتابة عبارة واحدة لمقال لمجلة لايف. بقي الورق أمامه خالياً: "لم تعد الكلمات تأتي"، هكذا أخبر كاتب سيرته هوتشنر، ثم بكى.
لا أذكر عدد الكتب التي قرأتها أو تصفحتها عن همنغواي أو"بابا همنغواي" كما أسماه الصحفي الأميركي" إ.هوتشنر" في كتابه الذي يعد أبرز سيرة أدبية كتبت بأسلوب روائي، كان فيها الصحفي الشاب والمغمور آنذاك يحاول إقناع صاحب "العجوز والبحر" أن يمنحه من وقته خمس دقائق فقط من أجل الحصول على إجابة لسؤال طرحته الصحيفة تحت عنوان "ما مستقبل الأدب؟" لتتحول الخمس دقائق، في ما بعد، إلى رفقة كان فيها الصحفي الخجول قد تحول الى ظلّ للكاتب العجوز:
- هو تشنر..انه اسم يثير التساؤل قال همنغواي
ثم اضاف : الحقيقة أنني لا أعلم مقدار ذرة عن مستقبل أي شيء
ودهشت لتلك الاشارة المفاجئة وقلت: آه طبعا
- كم سيدفعون قال مستدركا
- 15 الفا
- نظلر الي وهو يبتسم ثم قال : حسناً، هذا كاف في حد ذاته لبعث مستقبل الادب.
قبل أسابيع، خطر لي وأنا أقرأ " بابا همنغواي للمرة الخامسة أو السادسة، وبالتأكيد ليست الأخيرة، تساؤل واحد: ماذا لو لم يوافق همنغواي على إجراء المقابلة؟ ماذا لو ان مؤلف الكتاب اكتفى بالحوار وذهب لعمله الصحفي، ولم يفرغ نفسه لملاحقة الكاتب الذائع الصيت؟ في "بابا همنغواي" نجد أمامنا كاتباً يقرأ الحوادث واليوميات والأدب بمنطق الباحث واستقصاء الصحفي، وفي كل مرة أعود الى الكتاب أشعر بالغيرة والحسد، وأنا أقدر الجهد الصحفي فيما أقرأ، لأنني أمضيت جزءاً من حياتي أحاول ان أكتب عن حوادث وشخصيات عايشتها، وفي كل مرة أتذكر كيف أنني في بداية عملي الصحفي، كنت أمنّي النفس ان أصبح مثل همنغواي صحفياً متنقلاً بين العواصم، وما زالت محاولاتي الأولى في الكتابة هي تقليد "ساذج" لروايته العظيمة "وداعا للسلاح" والتي هي أقرب إلى سيرة ذاتية، عندما كان همنغواي يعمل ضمن قوات الإسعاف خلال الحرب العالمية الأولى، ويذكر كاتبو سيرته أنه أعاد كتابة "وداعاً للسلاح" اكثر من 39 مرة قبل ان يدفعها للنشر. ومن الطريف ان همنغواي اختار 50 نهاية لروايته هذه، وقد وجدت بين رسائلة عبارة كتبها قبل اسبوع من رحيله، تمنى لو انه ختم بها وداعا للسلاح: " ليست هناك أية نهاية ما عدا الموت والولادة هي البداية الوحيدة "
وعندما سئل همنغواي عن سبب هذه النهايات الكثيرة، أجاب: "من اجل الوصول إلى الكلمات المناسبة".كما كتب همنغواي العديد من العناوين المختلفة للرواية،ومنها "حب في الحرب"، "عن الجراح وأسباب أخرى"، و"السحر" ثم وصل أخيراً إلى "وداعاً للسلاح" أخذها عن قصيدة لشاعر إنكليزي في القرن السادس عشر.
أتذكر أنني اشتريت كتاب "بابا همنغواي" من الكتبيّ القدير "بناي جار الله" صاحب مكتبة التحرير عام 1977. ومنذ الصفحة الاولى شدّني الكتاب، ولم أتركه إلا بعد ان أكملت صفحاته، ولانبهاري به حدثت معظم الأصدقاء عنه، فطلب أحدهم أن أعيره إياه، واختفى الكتاب مع صاحبي "علي نجم" الذي تعرض للاعتقال والتغييب بسبب انتمائه للحزب الشيوعي. بعدها بثلاث سنوات وجدت نسخة من الكتاب عند المرحوم أبي طه، وهو أشهر كتبيّي شارع السعدون وكنت فرحاً به جداً، لكن فرحتي لم تدم سوى أيام، فقد دخلتُ صحيفة الجمهورية صباح أحد أيام عام 1980، وما ان أخذت مكاني في الصفحة الاخيرة، ووضعت الكتاب على المكتب، حيث امتدت له يد الأستاذ سامي الزبيدي مسؤول الصفحة الاخيرة الذي طلب مني ان أعيره إياه لمدة يوم واحد، وطال اليوم وتمدد ليختفي الكتاب من جديد، وذهبت الى العم أبي طه أشكو إليه ضياع الكتاب، فأخبرني انه يحتفظ بنسخة من الكتاب في بيته سيجلبها غدا، وهي النسخة التي أصر صديقي جواد الشكرجي ان يستعيرها مني واختفت مثل صاحباتها. النسخة الرابعة اشتريتها عام 1994 واستولى عليها بالغصب والمودّة الصديق الراحل رياض قاسم كعادته، عندما يقرر ان يستولي على كتاب من كتبي.. النسخة الخامسة هي التي انشر صورتها مع هذا المقال
************
ظل صاحب"وداعاً للسلاح" يشغل العالم حياً وميتاً، وحتى سنوات قريبة لم يخلُ عام من دون صدور كتاب عنه. وجميع هذه الكتب تتحدث عن سر هذا الرجل وكيف أنتجت "قريحته" كل هذه السطور والعبَر والمشاهد والمواقف التي توزعت بين الدفاع عن الجمهورية الإسبانية وعشق مصارعة الثيران، وبين هواية صيد الحيتان، وكتابة الريبورتاجات الصحفية لمجلة لايف، ويحدثنا الناقد رجاء النقاش في مقال ممتع عن همنغواي إنه استطلع آراء عشرات القراء كان معظمهم يعتقد أن همنغواي قناع لأكثر من مؤلف، إذ لا يمكن لرجل واحد أن يمتلك كل هذه القدرة على تصوير الماضي والحاضر والمستقبل في آن واحد، فهو رأى الحروب واستمتع بالسلام، وكتب عن الضعف الإنساني والحب والحرب، لكنه كان وسيظل بارعا في تصوير الأسى البشري، يسأل هوتشنر في"بابا همنغواي" كم يوجد في "لمن تدق الأجراس"من حوادث حقيقية، أجاب "البابا": ان كل الكتب الجيدة تشترك في صفة واحدة، وهي انها تحكي الوقائع بطريقة أصدق مما لو كانت هذه الوقائع قد حدثت بالفعل.
كان على همنغواي أن يعيش أكثر من حياتين ليتحقّق له العيش كما أراد، لكن رهافة حسّه وقلقه دفعته ليرسم نهاية محددة لحياته، المشاكس، المقاتل الذي اقترب من الموت اكثر من مرة، الأميركي صاحب الشعر الابيض، واللمعة الطفولية، المشاغبة، الضاحكة في عينيه، منذ ان نشر في الثانية والعشرين مجموعة قصص قصيرة، رأى فيها فيتزجيرالد، صاحب "غاتسبي العظيم"، ولادة كاتب متميز.. ترك اثنتى عشرة رواية ومئات القصص القصيرة، وآلاف المقالات، وخمسة وثلاثين ألف رسالة، ومئات المقابلات الصحفية، وسيناريوهات افلام.
************
في صيف عام 1926 بلغ همنغواي السابعة والعشرين من عمره، يجلس وراء طاولته في مقهى يضج برواده من النساء والرجال، كان عليه ان يتخلى عن الغرفة التي استأجرها في الفندق، وسيبقى عليه البحث عن غرفة أرخص، الطقس اليوم رديء جدا، حدث التغيير في يوم واحد فقط، اخذت الريح القوية تعرّي الأشجار من أوراقها، المقهى غطيت شبابيكه بالضباب نتيجة الحرارة والدخان في الداخل، المقهى كئيب وسيئ السمعة، هكذا قال له صديقه الرسام القصير "بيكاسو" وهو يشاهد الأوراق تتناثر على المائدة:
- ما الذي يجعلك تكتب وسط المجرمين والسكيرين؟ قال بيكاسو
ولم يجادله فهو حاول اكثر من مرة ان يتحاشى الجلوس في هذا المقهى لكن، وبعكس جميع الجالسين، كان يعاني من عادة سيئة هي الإفلاس. فكان يطلب من صاحبة المقهى، وهي امرأة لطيفة المعشر، ان تصبر عليه حتى يتسلم مبلع التحقيق الصحفي الذي أرسله الى إحدى الصحف
انتبه بيكاسو الى الكتاب المركون الى جانب الأوراق ساله: - لمن تقرأ الآن؟
• د.ه لورنس.. قال همنغواي
- انه لايطاق، يكتب مثل رجل مريض قال بيكاسو
• أعجبتني روايته "أبناء وعشاق".
- لم استطع إكمالها، إنها قصة ملفقة.
• إذا كنت لاتريد ان تقرأ ما هو سيئ، فعليك ان تقرأ فوكنر.
كان يعزّي نفسه بالنجاح، فجميع الذين وصلوا الى هذه المدينة، استطاعت كتبهم ان تنقذهم من العوز والألم. هل يتنازل عن الحلم،او يتخلى عنه، هل من الكثير عليه أن يرى كتبه تتصدر واجهات المكتبات، انه يتأمل كثيرا، صحيح ان الكتابة امر شاق، وهذه الرواية الثالثة له، بعد الشمس تشرق ايضا، ووداعا للسلاح التي قال عنها المحرر الادبي للواشنطن بوست انها أسوأ رواية قرأها خلال سنوات طويلة. لكن صديقه سكوت فيتزجيرالد قال له ان لا ياخذ اراء النقاد على محمل الجد.
في أحد الايام يصله طرد بريدي من نيويورك يعلمه أصحاب دار النشر التي طبعت روايته وداعا للسلاح، ان القراء تدافعوا بالمئات للحصول نسخة منها
قالت له جيرترود شتاين وهي تتابط ذراع بيكاسو : لا تفرح بالنجاح عليك ان تبدأ كل مرة من جديد.
يتذكر ان روايته الاولى لم تلق النجاح المطلوب، وعليه ان يسدد ثمن الخسارة للناشر، لكنها بعد نجاح وداعا للسلاح وضعت على قائمة الكتب المفضلة فبيع منها عام 1930 اكثر من 25 الف نسخة، اخذ يؤمن بان الانتصار سيكون حليفه، قال لصديقه سكوت فيتزجرالد:" ليتني اتمكن من كتابة رواية كل شهر، هناك افكار وصور وحكايات تعشعش في راسي " بعدها باعوام يتذكر حركاته الصبيانيه هذه فيقول لهوتشنر: لم اكن اعرف انذاك كيف تكتب الرواية الجيدة، كنت استعجل النجاح، لذا لازلت اعتقد ان ما كتبته في بداية حياتي عبارة عن كوم من الاوراق السيئة ".
في ذلك الوقت اغرم بدستويفسكي: انه مثال للصانع الماهر، يعلمنا كيف نفكر، وكيف نتقن الكتابة عن البشر"
عاد الى المقهى الضاج بضحكات السكارى قال للعامل: انتهى زمن التشرد
********
كان عليه، أن يعيش أكثر من حياة ليتحقّق له العيش كما أراد، لكن الحكاية التي تجلب له المجد لم تكتب بعد، يجلس وراء منضدة الكتابة ويشرع بالعمل، في السابق كان يستخدم الاله الكاتبة، لكن الان اقلام الرصاص تستهويه اكثر يكتب السطور الاولى من روايته الجديدة: كان رجلاً اضنته الشيخوخة يعمل بالصيد وحده في مركب شراعي، في مجرىة الخليج، لم يظفر حتى الان بسمكة منذ اربعة وثمانين يوماً مضت.
وفي الايام الاربعين الاولى كان برفقته صبي، بيد انه بعد مرور اربعين يوما بلا صيد انبرى والدا الصبي يقولان له: أن الرجل العجوز لاشك قد أصابه النحس وهذا أسوأ ما يُبتلى به الانسان "
بوضوح يرى همنغواي صياده العجوز، ضعيفا مسكيناً، تجاعيد الوجه بارزة، يداه مليئتان باثار الحبال الخشنة، كل شيء فيه وفي القارب يبدو عتيقاً ومستهلكاً، انه وحيد حتى الصبي الذي علمه الصيد تركه يائساً، لا اسماك، لاشيء سوى الوحدة ن خلال اسبوع واحد فقط يكتب الخمسين صفحة الاولى، غدا عطلة سيقضيها في صيد النمور مع اصدقائه، لكنه في اللحظة الاخيرة يغير رايه، صورة العجوز لاتفارقه، فقد اخذ مركبه وتوجه الى وسط البحر، حيث سيجدد محاولاته التي لاتنتهي لاصطياد سمكة كبيرة. لن يوقفه الفشل، ولا تنهكه المحاولات غير المجدية، منذ أيام لم تلوح في عرض البحر أي سمكة، انه الان وحيد لا شيء سوى زرقة الماء، انه لايهتم للزمن، فالزمن ليس شيئاً بالنسبة إليه، إنه هنا لكي يصطاد السمكة وسيصطادها حتماً. ستأتي ذلك اليوم الذي يثبت للجميع فيه انه صياد ماهر، الصياد مشدود الاعصاب، وقارئ الرواية سيظل يقلب الصفحات بلهفة حتى اللحظة التي يتنفس فيها الجميع الصعداء. فها هي السمكة تصل اخيراً. الان لاحت وصاحبنا العجوز ادرك جيدا أن الصراع قد بدأ. فالسمكة، كبيرة مخيفة... لكنها بدلاً من أن تستسلم تبدأ بالنزال : " أيتها السمكة إنني أحبك كثيراً وأحترمك، لكنني بالتأكيد سأنال منك ". وتمر الايام والعجوز صامد والسمكة لم تتعب بعد أخيراً، عند صباح اليوم الثالث تظهر بلونها الفضي اللامع، ويصرخ العجوز: اخيراً رفعت راية الاستسلام، وها هو حلمه ينحقق، السمكة تنزف دماً، وتعلن عدم مقدرتها على المضي في النزال، هل انتهت الرواية ؟ يأخذنا همنغواي في رحلة جديدة لم نتوقعها، فها هي دماء السمكة تجتذب أعداداً من أسماك القرش التي تقترب لتنافس الصياد العجوز على فريسته، وهنا يكون على سانتياغو أن يخوض صراعاً جديداً. لكنه هذه المرة صراع لانقاذ فريسته من الموت، لن تتوقف الحرب ما دام يملك نفساً ورغبة بالانتصار.
*********
قالت زوجتة همنغواي " إن الرصاصة انطلقت خطأ بينما كان ينظف بندقيته "
قال لهوتشنر لقد امضيت وقتاً كبيراً في قتل الحيوانات لكي لا أقتل نفسي، كانت الكتابة ملاذه من هاجس الموت، احتقر التزويق في الكتابة وااحب الاقتصاد،. حين منحته الأكاديمية السويدية نوبل الأدب في 1954، رات فيه كاتبا تمكّن من فن السرد، خصوصاً في الشيخ والبحر وتأثيره في الأسلوب المعاصر. خشي ألاّ يكتب شيئاً ذا قيمة بعد الجائزة، لكنه وجد في اوراقه القديمة مئات الصفحات عن حياته في باريس، فاصدر وليمة متنقلة وفيها تحدث عن حياته كاتباً فقيراً.
في " بابا همنغواي " نقرا الصفحات الاخيرة: ان افضل شيء في الحياة هو فرص كسب المعارك، ولكن بم يهتم الانسان؟ الصحة، العمل الطيب، الاكل والشرب، الاستمتاع بلذة الفراش، ليس عندي شيء من هذا، لاشيء منه ".