إنها قصة قاتل يصنع أثمن العطور، تلك التي أبدعها باتريك زوسكيند، وهي رواية تدور أحداثها في القرن الثامن عشر، بطلها شاب عبقري انحصرت عبقريته في ملكوت الرواية الزائلة كما يقول المؤلف، في ذلك الوقت انتشرت روائح نتنة في كل مكان، في البيوت والشوارع والغرف
إنها قصة قاتل يصنع أثمن العطور، تلك التي أبدعها باتريك زوسكيند، وهي رواية تدور أحداثها في القرن الثامن عشر، بطلها شاب عبقري انحصرت عبقريته في ملكوت الرواية الزائلة كما يقول المؤلف، في ذلك الوقت انتشرت روائح نتنة في كل مكان، في البيوت والشوارع والغرف والمطابخ، روائح طعام وشراشف مدهّنة ولحف رطبة وأجسام متعرقة، روائح تنبعث من مدابغ ومسالخ وجثث متفسخة وأمراض..
في مثل ذلك الجو ولد جان باتيست غرنوي عام 1738 وكان الوقت من أشد أيام السنة حراً، ولدته أمه أمام عربة سمك في شارع أوفير.. كانت الأم وهي في العشرين من العمر مريضة، وحين جاءها المخاض قبعت تحت طاولة تنظيف السمك بعيداً عن الأعين، وكانت تريد أن تقتل الوليد بالسكين كما فعلت مع ولاداتها السابقة، لكنها فقدت الوعي، ووُجد الوليد تحت سرب من الذباب ورؤوس الأسماك المقطوعة، ثم اعتقلت الأم وحُكمت بالإعدام نتيجة تكرار جرائمها بحق أطفالها السابقين.
تنقّل الوليد من مرضعة الى أخرى، إذ لم ترغب أي منهن الاحتفاظ به أكثر من بضعة أيام بسبب شراهته بامتصاص الحليب، وقام الضابط المسؤول لافوس بنقله الى مركز تجميع اللقطاء والأيتام، وأخيراً وُضع في أحد الأديرة ومُنح اسم جان باتيست غرنوي، وتسلمته إحدى المرضعات لكنها ما لبثت أن تخلت عنه لأنه يمتص ما يعادل ثلاثة أضعاف ما يشربه الأطفال الآخرون، ثم إنه، وهذا ما أدهش المرضعة، بلا رائحة، طفل بلا رائحة لابد أن يكون مسكوناً بالشيطان.. ليس هذا فقط بل إنه يشم روائح الآخرين حتى تلك التي لا يشمها الآخرون، مما دفع الأب تيرير أن يتخلص منه ويسلمه الى مدام غايار، التي تؤوي الأطفال طالما هناك من يدفع المبالغ، سلمها الطفل ودفع أجرة عام كامل.
ومدام غايار امرأة غريبة، قطعت صلتها بالحياة، لا تعرف الرحمة الى قلبها سبيلا، ربما بسبب طفولتها القاسية، ضربها أبوها على أنفها ففقدت حاسة الشم، تزوجت لكنها لم تعرف طعم الحياة مع زوجها ولا حتى مع أطفالها، بل إنها لم تحزن على من مات منهم، امرأة جُردت من إنسانيتها تماماً، وكانت تخشى أن تموت فقيرة وينتهي أمرها الى (مستشفى نزل الرب) ولذلك كانت تحرص على جمع المال لنهاية محترمة.. لكننا سنقرأ بأن العمر سيمتد بها، وتتغير العلاقات الاجتماعية بفعل قيام الثورة التي حدثت في البلاد وقلبت حياة الناس وغيرت مجمل العلاقات الأخلاقية والقيم المتعارف عليها.. وانتظرت موتها الذي لم يأت الا بعد التسعين، وكانت قد فقدت كل شيء فسكنت في غرفة مفروشة حتى جاء موتها الذي كانت تخشاه، حيث وضعوها في مستشفى نزل الرب على سرير مع خمس عجائز.
لقد اعتنى زوسكيند بشخصية مدام غايار، حتى ليمكننا أن نتعرف عليها فيما لو صادفتنا في الحياة، فهي إضافة لما ذكر، امرأة تحب النظام بدرجة كبيرة ولا تميز طفلاً على آخر، وهكذا صار غرنوي من حصة هذه المرأة، هو الذي ولد بحاسة شم لا يمتلكها أحد من البشر، تلك الحاسة التي منحته موهبة اكتشاف وصنع العطور، وكذلك حولته الى قاتل من نوع غريب.
عاش غرنوي تحت سقف مؤسسة غايار وكبر وعمل في العطارة مع المستر بالديني أشهر عطار في ذلك الوقت، وحالما عرف بما يمتلكه الفتى حتى صار أكثر غنى من أي عطار آخر، وبتجاربه الخاصة توصل غرنوي الى صنع أغلى العطور من أجساد الفتيات الجميلات بعد قتلهن، وهكذا قتل عدداً من الفتيات قبل أن يُقبض عليه ويحكم بالإعدام، لكنه حين صعد الى المنصة نثر شيئاً من العطر الذي صنعه، فإذا بالجمهور الناقم عليه جراء جرائمه يقترب رويداً منه مذهولاً بهالته حالماً بالإمساك به مأخوذاً بدوامة النشوة والتبجيل لهذا الشاب الذي لا مثيل له، من هنا وجد غرنوي طريق الخلاص وهرب الى باريس حتى وصل الى المكان الذي ولد فيه عند سوق السمك ذي الرائحة الكريهة.. رش جسده بالعطر فإذا بالناس يصيبها نوع من الدوار والنشوة، وتأتي إليه، تريد الإمساك به، ترغب في شمّه، وشيئاً فشيئاً تضيق الحلقة من حوله حتى يموت بين أيديهم وتحت أقدامهم ولم يبق منه شيء سوى العطر الذي انتشر في المكان.
ذلك هو ملخص رواية "العطر" التي تصل الى 287 صفحة والتي ترجمت الى أكثر من عشرين لغة وصدرت بترجمة عربية لنبيل الحفار عن دار المدى للثقافة والنشر بدمشق.. رواية تأخذك الى كل أنواع العطور التي صنعتها الطبيعة وصنعها الإنسان، عطور من كل صنف ولون حتى تلك التي لا يشمها سوى هذا المخلوق الغريب غرنوي.. روائح خشب، بلوط وصنوبر ودردار ودرّاق، خشب عتيق وطازج وهش ومتعفن، رائحة حليب يتغير طعمه من صباح لآخر حسب درجة حرارته أو بحسب البقرة التي حُلب منها أو كمية الدسم فيها، حتى الدخان له روائح لا يدركها سواه، بل إنه يشم عطر الشيء بمجرد أن يتذكره حتى وإن لم يكن قريباً منه، روائح قماش حريري تتصاعد من ملامسة المكواة أو من سدادة الفلينة لزجاجة خمرة نادرة أو مشط مصنوع من ظهر سلحفاة.. رواية اختلطت فيها روائح البشر بالعطور وبروائح الكائنات الأخرى.. إنها رواية العطور العجيبة التي أفضت ببطلها الى الموت وبمؤلفها الى الشهرة، علماً أنها الرواية الأولى لباتريك زوسكيند الذي ولد في بلدة أمباخ على بحيرة شتارنبرغ على سفوح الألب، درس في جامعة ميونيخ، كتب عدة قصص قصيرة وسيناريوهات سينمائية، ولم يُعرف ككاتب الاّ في عام 1981 بمسرحية (عازف الكونتراباس) وهي مونودراما من فصل واحد قدمتها معظم المسارح الألمانية والأوربية.