TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > القتيل لا يلاحق أحداً

القتيل لا يلاحق أحداً

نشر في: 10 يوليو, 2016: 09:01 م

سيدتي، أُثمّن تعزيتك على ما حدث، ولكن الأسئلة التي تتزاحم في كياني، تحول بيني وبين أن أحزن. الأسئلةُ وسادتي ساعاتِ النوم، وفي ساعاتِ اليقظة نبضُ لحظاتي. شاعرٌ يحمل قيثاراً، ويغني مدنَه التي تحترق. يقول في قصيدته إن الكلمةَ باطلةٌ، والفعلَ باطلٌ هو الآخر. ما من تعزية لكيان، تحلّ الأسئلةُ فيه محل الحزن. هذا الشاعر الذي يُقيم في منفاه، حلّت الأسئلةُ فيه محلّ هويته، وقد كانت هويتُه كلِحاء الشجر، بفعل خشونة الحزنِ فيها. الآن، وهو يستسلم للاسئلة وحدها، يخفّ كدخان الحرائق. حين سألني سائلٌ ذات يوم، داخل إحدى قصائدي: "من أنت؟" أجبتُ، أو أجاب الشاعرُ فيها:
"أنا الذي يعجِزُ عن إبطالْ
عُبوّةٍ ناسفةٍ تحت الخُطى الغافلة،
يعجِزُ عن إمالةِ الرصاصةِ القاتلة
عن سيرِها في لحظةِ الاغتيالْ." (2014)
    لم تكن إجابةً كما ترين، بل عَرضاً لهوية حائرة. لم أفخر يوماً بأني عربيُّ الهويّة، ولم أأنف منها. لم أفخر يوماً بأني أنتسب لعائلة مسلمة، ولم أأنف. كانتا كلون الماء في الماء. اليوم حين أُسأل عن هويتي، أعرضها فإذا هي حزمة من أسئلة لا غير، تُدهشني قبل أن تُدهش السائل. أذكر أن السؤال تكرر في قصيدة أقدمَ عهداً، فكانت الإجابة:
".. منْ نحنُ، إلا استشاطةُ أعمى
يُقادُ بخيطِ المتاهةِ؛
نردٌ على صفحــةِ الليلِ يُرمــى،
ومــا من صدىً لتَدَحْــ.. رُجِــــه."(2000)
كلانا سيدتي يقرأ الخبر، أنت الأمريكية في نيويرك، وأنا العربي المسلم في المنفى: "..374 قتيلاً في التفجير الانتحاري في بغداد.... أكثر هجمات الدولة الاسلامية دموية ــــ تفجير انتحاري "إسلامي" قرب قبر النبي في المدينة المنورة ــــ تفجير انتحاري في القطيف ــــ في دكّا..". ولا تغفلي أن القتل الاسلامي إنما يحدث في رمضان.
وكلانا يقرأ الخبر: ".. نجحت وكالةُ (ناسا) في وضع مسبار في مدار حول كوكب المشتري.. ويأمل العلماء باستخدام المسبار لدراسة طبيعة أعماق كوكب المشتري، لأن هيكل المشتري وتكوينه الكيمياوي يخفيان أدلة على أسرار تشكُّلِ الكون قبل نحو 4 مليارات ونصف المليار سنة."
الخبر الأول ينتسب لي وأنتسب له. الخبر الثاني ينتسب لك وتنتسبين له. أراد كلٌّ منا هذا أم أبى. المثقف العربي في داخلي يحتاج إلى المخاتلة، يحاول أن ينتزع نفسه من انتسابه إلى الخبر الأول، ويلقيها في الانتسابِ الثاني بالقوة أو بالمناورة؛ فأزعم أني كيان حديث، بل ما بعد حداثي، شأنكِ، وأدعوكِ لعقد مؤتمر بيننا عن "حوار الحضارات". أخفي في داخلي القتيل والقاتل، وتغضّين الطرفَ لسبب. القتيل فيّ يكتفي بإعلان هويته كعربي وكمسلم، والقاتل يُنكرها لأنها ليست مُسندة. ولكي أنتزع نفسي من الفضيحة، أنا القاتلُ والقتيل، ألجأ إلى النظرية المجردة. ومن يجرؤ أن يسأل عن تربتها التي نبتت فيها؟ أعرف عن وعي أن حداثتك نبتت في تربة، وأن حداثتي لا تحتاج إلى تربة كي تنبت. فالوهم لا يحتاج إلى منطق العلّية.
تزاحمُ الأسئلة لم يكن وليدَ تزاحم الحزن. لقد اكتشفت ذلك من قصائدي التي أجدها تلتبسُ عليّ مع الأيام. حتى لو وردت كلمةُ الحزن هذه في بيت من قصيدة، فهي فيها أشبه بمحطة استراحة، لأن في الحزن نبالةً، وتنهداتٍ تتسع معها الرئةُ، ويرقُّ القلب. ولكن الأسئلةَ وليدةُ اليأس وفقدان الأمل:
"... يُطلُّ، كأني به الشاعرُ المُكتهلْ،
على ما تبقّى من الكلماتْ،
مبعثرةً فوق سطح الحياةْ
بغير جذورٍ؛ فيأنف أن يرتحلْ
على قدمين؛
تساوى لديه السقوطُ الوشيكُ، وحبلُ النجاةْ.
تساوى لديه زمانٌ مضى، وزمانٌ حضرْ،
وآخرُ في القدرِ  المُنتَظرْ.
لذا شاء أنْ يتوارى على عجلٍ في مهبِّ الرياحْ،
ومجرى المياه، وفي الضوء، في ظلمةِ البينَ بينْ؛
رحيلٌ خفيٌّ على كلِّ عيْنْ. (2016)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram