أبحث عن حسب الشيخ جعفر كما بحث هو عن "نخلة الله" التي لم يجدها، لكنني وجدته منذ نصف قرن تقريباً، فلازمته، عن بعد، شاعراً منفرداً، واصطفيته، بين من اصطفيت، من شعراء العراق، والعالم العربي، وما زلت، بعد أن تعرفت، كقارئ للشعر، على بعضٍ من شعراء العالم، إذ أعود إلى شعر حسب، كلما حاولت استعادة آمالي الأولى وآلامي الأولى، على شكل ذاكرة غير مغشوشة، إلا ببعض ألاعيب العمر الماكرة أو على شكل بيئة شخصية للقصيدة، وقد بقيت هناك (سنين عددا)، مثل مشحوف محمل بالقصب والسماء، ذات يوم، بينما هجرته الأنهار والأهوار فظل وحيداً حتى تحول، هو نفسه، إلى بيدر من القصب تحت سماء من فولاذ وعصافير لا تحلق كثيراً لأنها يئست من الهواء الضروري للأجنحة.
ديوانه "الطائر الخشبي" بلونه الحشيشي، ما زال في مكتبتي، منذ أن اقتنيته في بغداد، فور صدوره في شهر آذار ١٩٧٢ بتصميم ورسوم هاشم سمرجي.
سجل هذا الديوان لحسب براءة اختراع القصيدة المدورة، بروح عراقية وبصمة عربية، حيث المغامرة الجديدة، كتقنية، لم تباغت الشعر وتربكه، بل أمدته بطاقة فنية متدفقة، لا تحسب، أي حساب، لمقتضيات السياق النقدي السائد، ولا تتلبث عند مقتضيات المنطق الصارم للغة الدارجة.
"... ارتدت ثوبها الموسلين وجاءت تراودني في سماء المقاهي، ولكنهم أجلسوها وراء الزجاج الخريفي في مخزنٍ من مخازن باتا، التمستُ إليها السبيلَ فقيلَ: اشترِ جورباً أو حذاءً، وقيلَ: العصافيرُ في الزمن الهمجيّ تُحاصَرُ والسلحفاة تطير...".
هذا المقطع نسخته من النسخة التي رافقتني ما يقرب من نصف القرن، وهو مقطع أشم فيه عرق عينيَّ، عندما كانتا تخبّان عباب الشعر بحماس مهرٍ مشتعلٍ بذلك الفضول الذي توقده الكتب.
.. وإذ يقود المهر المشتعل فضوله إلى أماسي أربعاءات اتحاد الأدباء والكتّاب العراقيين، قرب ساحة الأندلس، بداية سبعينات القرن الماضي، يلمح الشاعر حسب الشيخ جعفر من بعيد، وحيداً، عند طاولة في الحديقة، لصق نخلة وحيدة، فلا يجرؤ هذا المهر، رغم فضوله الشعري على الاقتراب من الشاعر المعروف، احتراماً لعزلته.
وهكذا، لم ألتق حسباً، حتى كتابة هذا العمود، رغم أنني كنت، لمرات عدة، قرب طاولته، أو لصقها، في المكان ذاته، حتى فرقتنا جغرافيا القسوة والشتات، لكن تاريخ العاطفة الشعرية لم يتغير وإن تغير طابعها النقدي.
"القسوة والشتات" هي التي جعلت من قصيدة حسب تحلّق تحت سماءين، موسكو وبغداد، حيث المناخ اللغوي لقصيدته يتداخل ويتفارق بين عالمين، الوطن والغربة، وبين زمانين أو أكثر، مثل عربة يجرها حصانان لكنها أبية على التفتت أمينة لاشتباكات الزمان بالمكان، محترسة إزاء ما يهدد وحدة "البيت".. البيت الممتد من سومر إلى بغداد عبر أمكنة وأزمنة عريقة.
في لندن، بتاريخ ٥ أيلول ٢٠٠٩ كتبت قصيدة بعنوان "خيط حسب الشيخ جعفر" ضمن مختارات شعرية لي صدرت في كتاب "أحاديث المارة" فيها:
"خيطه لم يزل ينصلُ، الآن، بين أصابعه/طَرفُ الخيطِ ضاعْ/أين رأس الشليلة؟
سندورُ كثيراً ونضربُ في الأرضِ/والأرضُ جدّ قليلة....".
أين حسب الشيخ جعفر؟
أتخّيله يدور حول نفسه في غرفةٍ ضيقة، يتشبث بشعاعٍ لا يراه غيره، لأنه يشع من قلبه، ليبلغ قمراً تحت التراب.
أين حسب الشيخ جعفر؟
من المؤكد أنه يكتب وإن لم يكتب. أو يكتب وإن لم ينشر.
للشاعر كرامته وللشعر احترامه لنفسه.
لا ضير إن كتب الشاعر أو لم يكتب أو لم ينشر.
كتب دبليو أتش أودن عن وليم بتلر ييتس:
"إن الزمن سيسامح ييتس/لأنه أجاد الكتابة".
الزمن المرّ نفسه هو ما يملي على كل ذي ضمير أن يعيد السؤال:
أين حسب الشيخ جعفر الذي أجاد القصيدة؟
في البحث عن حسب الشيخ جعفر
[post-views]
نشر في: 11 يوليو, 2016: 09:01 م