هكذا وبدون موعد التقت عشرات بائعات الهوى في متحف فان غوخ بأمستردام. المكان مزدحم بالفعل، لكن هذه المرة ليس بنساء حقيقيات بل بمجموعة كبيرة ومتنوعة من اللوحات التي تناولت هذا الموضوع، وضمها المعرض الكبير الذي حمل عنوان (بائعات الهوى في الفن الفرنسي) وعُرضت فيه أعمال فنانين كبار من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فبعد النجاح الهائل الذي حققه هذا المعرض في متحف دي أورسيه بمدينة باريس والذي استقطب نصف مليون زائر تقريباً، هاهو ينتقل الى أمستردام ليطلع عليه محبو الفن عن قرب. في هذا المعرض الفريد نرى كيف أن موضوع الغانيات قد استهوى الفنانين في تلك الأيام وأصبح المادة المفضلة للرسم. ويعود هذا بالتأكيد لأسباب عديدة أهمها تأثر الكثير من الفنانين بطروحات وقصائد بودلير والحياة العصرية التي كان ينشد لها، وكذلك رأى الكثير من الفنانين وقتها، أن هذا النوع من الرسم يعكس روح وأجواء مدينة باريس. وكذلك أثَّرت الحداثة والانفتاح على خيارات الفنانين الذين انجذبوا نحو موضوع النساء الغانيات ومايحدث خلف تلك الأبواب المغلقة والأماكن الخفية، حيث تطل لعبة الإغراء والتوق والانتظار وسط نساء بوضعيات جريئة. الموضوع هنا يحتمل الكثير وهو يعكس ثقافة بلد كامل ومدينة مثل باريس تعتبر الأولى فيما يتعلق بكل ماهو جديد وجريء وجميل ويتماشى مع الموضة. فنرى فناناً يجسد الموضوع من خلال الإيماءات وآخر من خلال العري الكامل، بينما يشير رسام ثالث الى غواية خفيّة وغامضة على محيا نسائه، وفنان آخر يقدم لنا الموضوع من خلال اختياره الغريب لزاوية المشهد وتأثير ذلك على الموضوع. ضم المعرض 160 عملاً لأربعين فنانا من مشاهير وعباقرة الرسم، حيث نشم عطر ذلك الوقت في صالات المعرض ونطَّلع على عالم المتناقضات والترف والسحر والغواية والمكياج الصارخ. نتفحص شوارع باريس وبيوتها الخاصة والصالونات التي أُعدت وهُيئت غرفها لاستقبال نساء بكامل التأثير والحضور الذي يسر العين ويداعب المشاعر ويلهم الفنانين.
وبالعودة الى تاريخ باريس سنرى أن القانون قد سمح للغانيات بالعمل منذ بداية القرن التاسع عشر وحُددت بعض الأماكن الخاصة لذلك، وكذلك وُضعت الغانيات على درجات ومستويات ابتداءً من الواقفات على ناصية الشارع وانتهاءً بالمحضيات باهظات الثمن والتي كانت تسمى (الدعارة الراقية) حيث الأسرَّة الذهبية الفاخرة والغرف الأنيقة المعطرة والشراشف الغالية، وهي خاصة بالنبلاء والسياسيين وبعض مشاهير الكتاب مثل فلوبير وزولا وغيرهم.
أتجول في المعرض باسترخاء يناسب الموضوع وطريقة الرسم، فأتوقف امام لوحة (الأريكة) لتولوز لوتريك حيث تتصدر العمل امرأة بثوب برتقالي تحيط بها مجموعة من النساء بحركات مختلفة وكأنهن يرحبّن بي وبباقي زوار المعرض، أتحرك قليلاً لتواجهني لوحة (امرأة عارية) لفنسنت فان غوخ، وبجانبها (امرأة في شارع الشانزليزيه ليلاً) للويس أنكويه، ثم تأتي لوحة (الأبسنت) للعبقري أدغار ديغا وبجانبها لوحتان للوتريك هما (طاحونة دو لاغاليت) و(اللعوب)، وفي الجانب الآخر تعرض لوحات مثل (الانتظار) لجين بيرو و(الطريق الشائك) لتوماس كوتور، وهكذا تتوالى الأعمال العظيمة لفنانين من طراز مانيه وكيس فان دونغن وكوبكا وغيرهم، الى أن تأتي فترة بداية القرن العشرين لتتصدرها لوحة (عارية بجوارب حمراء) لبيكاسو ولوحة (الكآبة) لأندريه ديران، ولوحات أخرى لباقي العباقرة.
إضافة الى هذا المعرض الجميل، فقد قام المتحف بتنظيم أماسٍ شعرية وقراءات تتعلق بنفس الموضوع، وقد حدد لذلك يوم الجمعة من كل أسبوع. كذلك أقيمت مجموعة من ورشات العمل في بعض صالات المتحف، ورشات لها صلة بالأعمال المعروضة وأجواء المعرض. هنا أرى وأشاهد أن الابتكار لا يأتي فقط من خلال أعمال ولوحات مهمة ومؤثرة فقط، بل من خلال تنظيم معارض فريدة ومهمة وجميلة.
حين يزدحم المتحف ببائعات الهوى
[post-views]
نشر في: 15 يوليو, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...