مصطلح "العَلس" شاع استخدامه بين الأوساط الشعبية في سنوات العنف الطائفي ، منه دخلت الى القاموس الشعبي مفردة العلّاس ، الشخص المتبرع او المكلف بتقديم معلومات وافية دقيقة عن ضحية يبحث عنها "الصكّاكة" منفذو عمليات الاغتيال سواء بأسلحة مزودة بأجهزة كاتمة للصوت او بعبوة ناسفة . وعلى مدى السنوات الماضية ترك العلّاس في أذهان العراقيين صوراً مرعبة حين يتم الحديث عن نشاطه الواسع حتى داخل الثكنات العسكرية والدوائر الرسمية.
قبل ثورة الرابع عشر من تموز في عام 1958 كان العراقيون يعرفون "العلس" بمعناه الآخر "الشعب يعلس التبن" ، ليس شعاراً تبناه تنظيم سياسي في العهد الملكي، وانما هو تعبير شعبي عن تردي الأوضاع الاقتصادية ، وانتشار الفقر في بلد نفطي سيطر الاستعمار على ثرواته الطبيعية ، فجعل العراقيين مثل البعير يحملون الذهب ويأكلون العاكول . في الذكرى الثامنة والخمسين لإقامة النظام الجمهوري ، هناك من يرى في ثورة تموز بداية خط الشروع نحو إقامة نظام ديمقراطي يحترم حقوق الانسان ، يرسّخ مبدأ التداول السلمي للسلطة ، يؤمن بالتعددية . هذه الأهداف وغيرها وردت في مذكرات شخصيات عسكرية شاركت في عملية الإطاحة بالنظام الملكي في العهد المباد ، على حد تعبير المتفائلين في صنع مستقبل افضل للعراق بعد ان حقق استقلاله الكامل من سيطرة الاستعمار.
في المنطقة العربية "الثورة تقتل أبناءها" ، الأمثلة والشواهد كثيرة في التاريخ الحديث ، في العراق ثورة 14 تموز "علست" أبناءها ، لأسباب تتعلق بالاستحواذ على السلطة ، وسيطرة العسكر على مفاصل الدولة ، واندلاع خلاف سياسي تحول الى صراع دموي تغذيه قوى اقليمية وجهات خارجية . الرئيس الراحل عبد السلام عارف حمل لقب قائد الثورات الثلاث ، أثناء إلقاء خطبة في إحدى المدن ، قاطعته الجماهير بالتصفيق والهتاف ، وفي لحظة استياء وغضب قال مقولته الشهيرة "خلّونا ناكل ...." فجسَّد حالة "علس التبن" بشكل رسمي بمعنى آخر.
في العهد الملكي كان أحد كبار الإقطاعيين في الجنوب يفضل احتساء الشاي في مقهى قريب من كراج السيارات المتوجهة الى بغداد ، رواد المقهى يستقبلونه بأجمل عبارات الترحيب ، لكنه كان يأمر مساعده بالرد : المحَفوظ يكلّك هلا ، الله بالخير محَفوظ ، ويرد المساعد: المحفوظ يكول صبحكم الله بالخير . بعد الثورة ، تخلى الاقطاعي عن عادته السابقة ، أخذ يرد التحيات من دون الاستعانة بالمساعد ، لكنه في ذلك الوقت حذّر فلاحيه السابقين من إبداء الفرح بتطبيق قانون الإصلاح الزراعي ، فقال عبارته الشهيرة "الجمهورية سوف تجعلكم تعلسون التبن".
في النظام الجمهوري بدأ العراق باستيراد الحنطة والشعير بعدما كان يصدرهما الى الخارج وحصلت هجرة واسعة من الريف الى المدينة ، حينذاك استبشر المحَفوط خيراً ، استعد لاسترداد مجده المزعوم لكنه انتقل الى جوار ربه قبل ان "تعلس" الثورة أبناءها .
الثورة "تعلس" أبناءها
[post-views]
نشر في: 15 يوليو, 2016: 09:01 م