TOP

جريدة المدى > عام > العمل الأدبي بين الفلسفة وعلم النفس

العمل الأدبي بين الفلسفة وعلم النفس

نشر في: 17 يوليو, 2016: 12:01 ص

يقول علم النفس بأن العمل الأدبي هو ردُّ فعل أو استجابة لانفعال يثير، كأنْ يكون أعجوبةً، عدواناً، حدثاً غير متوقّع يصادفك أو غير مألوف، شديد الابهاج او فاجعاً. وفي الحياة تختلف ردود الافعال ، قد تكون ممن يواجه المسبّب رفضاً أو صراخاً أو اشتباكاً بالاي

يقول علم النفس بأن العمل الأدبي هو ردُّ فعل أو استجابة لانفعال يثير، كأنْ يكون أعجوبةً، عدواناً، حدثاً غير متوقّع يصادفك أو غير مألوف، شديد الابهاج او فاجعاً. وفي الحياة تختلف ردود الافعال ، قد تكون ممن يواجه المسبّب رفضاً أو صراخاً أو اشتباكاً بالايدي او غضّ نظر وإقراراً سليماً بأن في الحياة سوءاً واننا نواجهه إن لم يكن اليوم فغداً. وهذا السوء أصناف لاحدود لها، لنا في كل حالٍ حصة منه...

وبهذا التصور، يرون الرسم والكتابة الأدبية نوعين من رد الفعل من غير ما اهتمام بجوهر الفن وأساليب التعبير. وبهذا التعميم، تكون القصيدة والقصة والرواية واي خطاب ادبي هو رد فعل وان رد الفعل هذا يوظف قدرات الإنسان الاديب للتعبير عنه بلغةٍ واشكال دونما توقف لفهم عملية اختيار لمفردات اللغة وصياغات الجمل. لكننا نعرف ان الثقافة الفنية هي التي تتحكم بالتقنية وتوجهها.
وان كنا تركنا إشارة في الأخير، لا خلاف لنا مع ما قيل. لكن ذلك الكلام يثير تساؤلات اخرى صعبة. وإذا ما كانت سهلة فالإجابة عنها عادة مصحوبة بالتردد واللايقين.. والسؤال هو: هل الأدب حقاً واشكال كتابته، ردُّ فعل؟ وماذا إذا كان الكتاب يعبر عن فلسفة او عقيدة؟ هل في هذين رد فعل على ما يشعر به او يفكر به؟ هذا كلام فيه مغالطة. ماذا نقول لكتّاب تحدثوا عن احداث تاريخية وآخرين تحدثوا عن عقائدهم وافكارهم او تأملاتهم؟ اليس لهذه تأثير في الكتابة وفي تحديد الأسلوب الأكثر ملائمة بين عديد الأساليب؟ والقول بأن رد الفعل يؤثر في اختيار المفردة واختيار العبارة، على موافقتنا المبدئية عليه، كيف تفسِّر لغة المتصوفة وشعر الفلاسفة، وكيف نفسر الآثار التي تركها في طبيعة الأدب: العصر الأموي والعباسي وافكار المعتزلة، وما خلفوا من سمات في الشعر والكتابة؟ ام ثمة مؤثرات اخرى؟ المراحل التي مر بها الأدب العربي احدثت تغييرات مهمة في المضامين وتركت في لغتنا عشرات المصطلحات وتطورت خلالها الأساليب. فهل هي تطورات لرد الفعل ام تطورات معرفية؟
وهل نفسر اليوم ترك الايقاعات في الشعر والتحول الى كتابة الشعر نثراً، هو واحد من ردود الفعل ام لذلك ضرورات فنية وطبيعة عصر؟
والآن اسأل بمباشرة اكثر : اليس هو ظلماً صعباً تقبُّلهُ ان نحرم الكاتب، شاعراً او رداً، من فلسفة يعبر عنها وعن موقف من الحياة ومن رؤى خاصة لما يشهد ويرى فيكون له تفسيره او تأويله، من ثم تعبيره عن ذلك؟ هل كل هذا رد فعل ولا شيء آخر؟ هي على أية حال مسألة للنقاش.
شخصياً لا ارى ذلك. أُقرِّ بردود الافعال في السلوك وقد يكون المحفّز للكتابة ردّ فعل، لكني ارى الكتابة الجادة صادرة عن موقف فلسفي وعن رؤية للحياة خاصة وانعكاس خبرات وتجارب. ثم لم النظر الى كاتب الأدب او الى مبدعه، نظرةً فيها صِغَرٌ لا كِبَر؟ أليس لهذا الكاتب ثقافة وقراءاته هي التي ترسم مضمون وشكل عمله الابداعي؟ ام هو جهاز لقياس الاهتزازات؟
صار لنا أمران يسنداننا، الاول: ان تكون له فلسفة يعبر عنها والثاني ان له مراجعه الثقافية التي تحدّد وتسهم بنائياً في تحديد نوع الكتابة وما تتضمنه.
مسألة اخرى تثلم التفسير النفسي بأنه رد فعل. في الابداع محاججات عقلية مع المختلف او المقترح او المرئي، وبوعي علمي لا بتأثّر عاطفي. وفي الكتابة تطور فنون ومحاولات تجديد مما لا يجعل الكتابة دائماً ردّ فعل. وإذا كانت آلية الكتابة رد فعل فالإبداع والتجديد فيهما لا يقعان تحت ذلك التأثير وحده. في كل حال، لا نميل لاعتماد التفسير النفسي وعلينا احترام الأسباب كلها..
ايضاً، للكتابة الأدبية أعرافها كما للغة بعامة أعراف. فلا اختراع قواعد ولا عبث في التراكيب. الابداع يكون فيها ومن خلالها لابتخريبها وذلك ما يمنحها جدَّة حضور وجدِّة دلالات وهو فعل الأدب.
فالمسألة ليست أسلوبية حسب ولا هي انطباعات حسب او ردود فعل. الكتابة اليوم تعبر عن الحضور الإنساني للكاتب ولانطباعاته ومشاعره وافكاره. وهذه احكام ومفردات فردية متغيرة من فرد لفرد وضمن الفرد الواحد نفسه، كما من زمن لزمن.
وإذا كانت الكتابة الأدبية حصيلة قراءات وثقافة وخبرات إنسانية، فالموقف من العالم ورؤيا الكاتب تكونهما فلسفة الكاتب الاجمالية. وعظمة عدد من الكتاب وراءها، فضلا عن جمال أساليبهم وتميزها، الفكر الإنساني والرؤيا الجديدة المتميزة والتأويل الخاص. الأسلوب وحده، مهما كان متقناً فنياً أو بليغاً، لا يصنع ادباً مهّماً. ولنا في الأدب العربي العديد من المنشئين الكبار لا نراهم كباراً ! من يشك بفخامة أسلوب المنفلوطي او الرافعي او ابراهيم المازني؟ من جانب آخر، أسلوب نجيب محفوظ أسلوب صحفي ولكنه دقيق العبارة واضح الدلالة ووراءه موقف من الحياة واجتهاد شخصي في تناول ما يتحدث عنه. ثمة خصب إنساني في عموم كتابته والجملة ليست بليغة لكنها غنّية وريّانة بالمعنى...
يقول جان كوهن في "الكلام السامي": الشعر ينتسب للعالم بقدر ما ينتسب للنص وهذا يعني انه ينتسب للثقافة وللنص. وفي هذا المعنى يقول تريستان تزارا "ان ينتقل من الورق للحياة" . أي اعادة التجارب بعد تحويلها فناً وافكاراً، او قل أدباً. من يتفحص الكلام الاول لـ- جان كوهن – والثاني لـ -تزارا يرى انه لا يمكن ان يوجد ادب محترم او يكون معقولاً، من غير تحولات عقلية في فكر المنشئ ومن غير فلسفة تمنحنا فهماً للانسان والحياة حوله.
لا تنتظر أدباً ذا شأن من غير ان يسند العمل فكر واضح وفلسفة تصنعان رؤيا للكاتب وتمنحانه افكاراً. بأي شيء سوى هذه يمكن ان يكون الادب عظيماً وانسانياً؟ ليس غير ان يعبر بجمال وفن عن الحياة ونحن فيها، افكاراً ومحِنَاً وعواطف. لابد من حضور عموم فلسفتنا، الكلمات  وحدها لا تصنع ادباً.
اما من يكتبون طرائف وانطباعات وبعجالة رد الفعل وبخفة أجواء المقاهي، فنتائج ذلك هو هذه الكتابات الفارغة التي لا قيمة لها، إلا شاغل وقت ولهو عابر. كتابات مثل هذه لن تصمد طويلاً حتى تنفرط ثانية كلمات!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram