تُميتني ساعة إثر ساعة أكفُّ الفلاحين الذين لم تمنحهم الجرافات وقتاً كافياً ليرفعوا اخصاصهم وجذوع بيوتهم، أولئك الذين لم يتمكنوا من لملمة بذورهم من زروع العام الماضي حتى تلك التي يبُست تحت شمس تموز المحرقة، وأفكر، محموماً بالأرض المجهولة التي سيحثون الخطى باتجاهها، بالآفاق التي لم تسم بعد، وهي تنتظرهم. أحمل عنهم حلم زورق ظل مشدوداً الى شجرة المسناة . وهو يروح ويتقلب على الموج الباذج الندي، ومع أصوات الأبقار وهي تثغو خارج الزريبة، مع مواء القطط تحت الأسِرَّة التي سترفع بعد قليل، مع نباح الكلاب الذي راح يتعالى بين النخل والانهار، ومع أشياء أخرى، سيتركونها دالة على هزيمتهم ساظل أنشج وحدي،غريباً، لا أملك حيلة لأحد، اتحدى الألوهة وحشد النبوات وخرائط الأضرحة الخضر التي لم تثنِ من عزيمتهم في الرحيل .
وقبالة مركبة الألم التي سيخلفها هؤلاء، سأبكي أصدقائي الذين لم يجدوا الوقت مناسبا ليموتوا بهدوء، وأقول لهم: ها قد استعجلتم الطعنات والمقابر، أفكر بالخطى الناقصة التي لم تكتمل دورتها بأقدامهم، بالمطر الذي سيظل يغسل شواهد قبورهم طويلاً. وفي وحدانيتي المطلقة، سانشغل بأرقام هواتفهم، أزوّل لهذا وأنتظر ذاك. ساتركها ترن وترن، حتى تملأ البرية شجنا نغماتُها. نعم، لا أعلم من ترك هاتفه على كومدينو النوم قرب سريره، حيث قضى ليلة البارحة، مثلما لا أعلم مَن هذا الذي استعجلته الرصاصة، ولم تمهله لكي يعيد هاتفه الى جيبه، فقذف به على الرصيف، أو ذاك الذي قضى وهو يتلقى الطعنة والطنعتين، في شارع مظلم سقطت أعمدة نوره من سنوات ..وذاك الذي خانه قلبه أو شح الهواء في رئتيه ..لكنني سانتظر رداً ما، ردا يأتيني من فتحة في قبر ربما، من نافذة ظلت مشرعة على الظلام منذ أن ابتكر الانسان النوافذ والأبواب. سأقول إنني انتظر بريداً مجهولاً، يجيئني عابراً محيطات الرمل وفيافي الماء. وعلى الأرض هذه، هناك من يقول لي مساء الخير أو صباح الخير. أنا متيقن من ذلك لا محالة.
كنت سألتك عن بستان الحاج كاظم ابن الملا خضير، ما إذا ظلت من نخلاته واحدة، ومثل ذلك سألتك عن بساتين بيت الفليج والدويشية واليعقوبية والشكارة والبحيرية والعشرات والمئات من الدونمات التي كانت يوما هنا وهناك فكنتَ تشير بيدك العاطلة نهاياتها ومآلاتها. وحين كنت ألحف أسألك عن بيت فلان وفلان وفلان كنت لا تنيء تشير بيدك خلف ظهرك كناية عن الغياب والرحيل والفقدان. يا ألله. أكلهم؟ فتقول لي : إيما واللهِ، كلهم.
يقول صبيٌّ بيتهم أقصى الجنوب، بأنه فقد أباه في حرب كان دخلها بقميص وحيد، قميص مما تنسجه الطبيعة وتخترعه الانهار، قميص من سعف وظلال: يقول إنه لم يجد كوب الحليب للرغيف الذي طال مكوثه بين يديّ، فهبَّ حاملاً بندقيته الى هناك، كان يحلم بهاتف يكلمه من خلاله، لكن بندقية صدئة استعجلت المسافة بينه والهاتف فسقط هناك، هو الآن ينتظر نعشاً تحمله مركبة صغيرة، ستتوقف هنيهة عند ضريح على الفرات، ومن هناك سيتخطفه الحملة والنقلة المشيعون، وسيمكث وأخوته الذين انتظروا معه الحليب، ثلاثة أيام في خيمة العزاء، التي نُصبت له أقصى الملح والسباخ لكن أحداً ما لن يهرع اليهم، يمسح على رأسه بعد الأيام الثلاثة تلك.
الهواتفُ ترنُّ في البرية
[post-views]
نشر في: 16 يوليو, 2016: 09:01 م