TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > روسيا والفن.. الابتسامة الغائبة

روسيا والفن.. الابتسامة الغائبة

نشر في: 17 يوليو, 2016: 09:01 م

 

"في هذا التجمع من أعلام الثقافة من نهاية القرن التاسع عشر حتى عام 1914 كم تبدو روسيا معذبةً، ومشحونةً بالاضطراب. لقد أَحصيتُ ابتسامتين ونصف فقط في لوحات هذا المعرض. واحدة من النساء التي استطاعت أن تلوي شفتيها بمشروعِ ابتسامةٍ هي مغنيةُ الأوبرا ناديشتا ﭬروبيل، زوجة الفنان ﭬروبيل الذي طالما كان معذباً. فهو بعد أن وضع واحدة من البورتريتات لها أودع مستشفى المجانين، ولم يبق لديها ما تبتسم له." كتب هذا ناقد جريدة الـغارديان حول المعرض الرائع الذي أقامه "متحف البورتريت الوطني" تحت عنوان "روسيا والفن: في عصر تولستوي وتشايكوﭬسكي". ملاحظته صائبة ومؤثرة. ولأنني من أولئك الذين غمرتهم تلك المرحلةُ بكرمها الإبداعي في حقلِ الأدب، الموسيقى والفن وجدتُ في ملاحظة الناقد ما أوقد في الرأس شرارةَ قصيدة سرعان ما كتبتها مطلعها على الورق: ليسَ من ابتسامةٍ واحدة في هذه الأوجهِ، ممن أيقظوا الأسئلةَ الخالدة فينا، وأخْلَوا سَعةَ الفضاءِ للأجوبةِ الكاسدة؟ ..... كلُّ إجابةٍ، إذنْ، تُشرقُ بابتسامةٍ، ووحده السؤالْ يغيمُ في فمِ الرجالْ.... أكاد أكون على معرفةٍ بمعظم الوجوه التي عُلقت على جدران المعرض. منهم من صحبتُه طوال حياتي عبر الكلمة، ومازلت: تولستوي، دوستويـﭬسكي، تشيخوف، تورجينِف، إخماتوﭬا. وعبر اللحن: تشايكوﭬسكي، رمسكي كورساكوف، مسّوركسكي، روبنستاين، شاليابن. وكانوا في أغلبهم متطلّعين إلى رحمةٍ تُقبل عليهم من الغيب، تمنحم ولو نصف إجابة عن الأسئلة الكبرى. ولكن هيهات.لوحاتُ هذا المعرض مستعارة من "متحف تريتياكوﭪ" في موسكو، وهي نادراً ما غادرت مكانها، ورساموها مجهولون بصورة ما في ثقافة الغرب الفنية. هذه الثقافة التي شغلت نفسها منذ مطلع القرن العشرين بالحركاتِ الطليعية في الفن الروسي وحدها. وما أن يُذكر هذا الفن حتى يُذكر "ماليـﭬتش" ولوحته "المربع الأسود". والمتحف في موسكو أسسه تاجر عاشق للفن يُدعى "تريتياكوﭪ، وعلى معرفة مباشرة بالفنانين الروس في زمنه. ولقد رسمه الفنان رَﭘِنْ وهو يقف معقود اليدين وسط مقتنياته الفنية، وقد وُضعت اللوحة في مدخل المعرض الجديد هذا. في هذا المعرضِ نتعرُّف على الفنان "بيرتوف" الذي وضع لوحةَ دوستويـﭬسكي الشهيرة، وهي صورةٌ نادرة، لأنها رُسمت للكاتب في جلسة حية له. ولقد اعتدنا عليها، نحن القراء، عبر الكتب وحدها. كما نرى له لوحةَ عالم اللغة ﭬـلاديمير دال، التي تنضحُ نضوباً لقوى الحياة من هذا الرجل الشيخ. ونتعرف أيضاً على الفنان "ﭬروبيل" بلوحاته التي تبدو مهشمةَ الألوان، وكأنها تُرى عبر شظايا مرآة. وهو الذي رسم بورتريت لزوجته بنصف ابتسامة، قبل أن يُنقل إلى مستشفى المجانين. كما نتعرف على الفنان "كورنيتسوﭪ" الذي وضع بورتريت "تشايكوﭬسكي" الشهير، والذي يبدو أشبه بدراسة سايكولوجية لكائن مُعذّب، بالغ الوهن في الجسد والروح. ثم نتعرف على الفنان "إليا رَبِن" عبر لوحات عدة، منها واحدة لتولستوي، تورجينيـﭪ، مسوركسكي، وهي بورتريت رسم لهذا الموسيقي الكبير قبل موته بأيام وهو في الثانية والأربعين، وكذلك الموسيقي روبستاين. هناك صورة أخرى لتولستوي وهو على مكتبه منشغلٌ بمخطوطة كتابه الفلسفي "ما الذي أعتقده". وهناك بورتريت لسيد القصة القصيرة والدراما تشيخوف رسمها الفنان لوسِف براتس، وهي معروفة عبر الكتب أيضاً. وأخيراً بورتريت الشاعرة أخماتوﭬا للفنانة كاردوﭬسكايا، بهيئتها الجانبية ذات الإيحاء النبيل، والذي عادة ما يُقرن بإيحاءات شخصية الشاعرة اليونانية "ساﭬو". هناك عشرات اللوحات الأخرى لشخصيات في عالم الفكر والفن أجهلُها، تُلقي بعض الضوء على المنحى "الواقعي" للفن الروسي في تلك الفترة، وعلى التطلع المستقبلي باتجاه "الانطباعية"، و"الرمزية" أيضاً.متعةُ هذا المعرض بالنسبة لي كانت مزدوجة. متعةُ صحبةِ الفن الروسي، وصحبةِ الأدب الروسي، في مرحلة الاضطراب الروسي، الروحي والسياسي. في كلِّ وقفة تأمل أمام اللوحة، أيةِ لوحةٍ في هذا المعرض، استعادةٌ غنيةٌ لا للفن والأدب الروسي في ذاتهما فقط، بل لما أسدياه من نفعٍ وإنضاجٍ لذات الانسان والكاتب فيّ. منذ الستينات وهذا المصدُ يكاد ينفردُ بي، وكأن هناك ينبوعاً مُشتركاً بيننا للتساؤل والحيرة والاضطراب.

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram