امتلأت الساحة الكبيرة التي تتوسط مدينة ألكمار الهولندية بالناس، وهم يترقبون بداية افتتاح فعاليات وعروض سوق الجبن الشهير، حيث الفتيات بملابسهن الهولندية الفلكلورية وباعة الجبن يتحركون بخفة وسط المكان وهم ينقلون ويعرضون أنواعاً مختلفة من الجبن وبكميات كبيرة وسط الساحة، بملابسهم البيضاء وقبعاتهم الملونة بأربعة ألوان مختلفة تشير الى مكانة ومرتبة وتفاصيل عمل كل منهم، فالقبعة البرتقالية على سبيل المثال يعتمرها الرجال الذين يطلق عليهم بالمفهوم الهولندي (آباء الجبن) وهم الأساتذة الذين يقررون نوعية وأسعار وكميات الجبن التي تخرج الى السوق، وهكذا تتدرج الأهمية لصاحبي القبعات الحمر والزرق والبيض. شققت طريقي وسط الزحام لأصل الى الطرف الآخر للساحة لتواجهني بناية كبيرة شاهقة تسمى ميزان الجبن، وهي تعود الى ستة قرون مضت، حيث كانت في تلك السنوات البعيدة مركزاً لوزن الجبن بكميات كبيرة جداً، ليأخذ طريقه بعدها ويوزع على المدن الهولندية المختلفة. رفعت رأسي الى الأعلى فلاحت لي في الجانب الأيمن من نفس البناية يافطة كبيرة مكتوب عليها (متحف الجبن) فتساءلت مع نفسي.. وهل هناك متحفٌ للجبن؟ فانتابني الفضول لمعرفة ومشاهدة ما بداخله فقررت أن أدخل لأتمتع برؤية هذه القوالب اللذيذة المليئة بالثقوب، والتي وصلت الى القاصي والداني ولا يخلو منها بيت على وجه الأرض تقريباً.
قطعت التذكرة وصعدت السلَّم الذي صُنِعَ وصُمِّمَ على شكل شرائح جبن صفراء، لأدخل الى أجواء وتفاصيل المتحف الغريب والذي تأسس سنة 1983 ليعكس جانبا كبيرا ومهما من الثقافة والحياة والتقاليد الهولندية، لتبدأ الرحلة مع الجبن وعالمه وطريقة صناعته والأدوات التي تستعمل في ذلك وأشكالها الغريبة التي تقربها من قطع فنية فريدة. أتجول في المتحف وأبدأ بالقاعة المخصصة للأدوات والبراميل المعدنية التي ينقل بها الحليب من المزارع الى مصانع الجبن، براميل بعروتين، خصصت لترص في عربات النقل القديمة، ثم تأتي الأحواض الخشبية الكبيرة التي كانت تعبأ بالحليب قبل صناعته حيث تحتوي على آلات الغرف والتحريك. أتجول أكثر لتطل في قاعة جانبية المكابس الكبيرة ذات المقاود الدائرية التي كانت تكبس الجبن وتقوم برصَّه. بعدها أطَّلع على مجموعة كبيرة ومختلفة من السكاكين ذات المقبضين والمخصصة لتقطيع الجبن أو تحويله الى شرائح، ثم ادخل في قاعة أرضيتها صفراء مليئة بالثقوب مثل قطعة جبن قديمة، وهي مخصصة للأختام التي توضع على الجبن والماركات المختلفة أيضاً ومنها الماركة الحمراء الشهيرة التي تشير الى أفضل نوعيات الجبن. في مقابل هذه القاعة هناك ممر طويل عرضت فيه نماذج مصورة لأنواع الأجبان وعمرها الذي ينقسم الى ستة درجات تقع بين شهر واحد وسنة كاملة، حيث تحدد قيمة الجبن وعمره من خلال لونه ورائحته وطعمه. بعد رحلة وسط عالم الجبن تظهر في النهاية قاعة مضيئة مخصصة للإعلانات والملصقات التي تناولت الجبن كموضوع لها ، ويظهر هنا كيف أن الفنانين قد عالجوا هذا الموضوع بروعة وبساطة تعكس روح البلاد وجمالها الأخاذ.
يبقى الجبن أهم عنصر من عناصر الثقافة الهولندية التقليدية حيث يتناول الشخص الهولندي كحد متوسط 20 كيلوغراماً في السنة، في هذا البلد الذي يحتوي على 18 ألف مصنع للحليب ومليونا ونصف المليون بقرة تنتج 12 مليار لتر من الحليب سنوياً ، يذهب نصفه لصناعة الجبن. أخرج من المتحف لتقابلني فتاة بزيها الريفي التقليدي وهي تقف أمام عربة من الطراز القديم مليئة بأكياس الجبن وهي ترفع وتحرك بيدها أحد هذه الأكياس، أتجهت نحوها وأنا أتأمل الدائرتين الحمراوين على خديها وأعطيتها 10 يورو ثمن الكيس المليء بقطع مختلفة من الجبن، وسرت على مهل نحو البيت لأستمتع بمحتويات الكيس وأختم يومي بالجبن كما بدأته به أيضاً.
متحف الجبن
[post-views]
نشر في: 22 يوليو, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...