TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > منتشياً بما شربتُ.. مستقبحاً ما فعلتمْ

منتشياً بما شربتُ.. مستقبحاً ما فعلتمْ

نشر في: 23 يوليو, 2016: 09:01 م

في خمّارة القيظ الجنوبي، ووسط حرائق الريح السموم بالبصرة، ستقودك أقدامُك ثانية باتجاه سينما الوطني الشتوي، تلك التي تنتصب عند مبتدئه من جهة أسد بابل ومصرف الرافدين، ولأن الفيلم لم يعجبْك، لأنْ الشمس طاردتك كثيراً، فقد حملت ما ظلَّ بين قدميك من الخطى المنهكات، ودخلت الحانة الضائعة وسط المحال، القابعة بين ما تبقى من بيوت سكان محلة العزيزية المسيحيين، الحانة التي أسمها "بوبيان". لا، لم تصعد سلّمها الخشبي القصير، الذي تفوح منه، إلى اليوم رائحة الدهان، إنما اتخذت من طاولة صغيرة بكرسيين، أسفله مهبطاً ونزلت، هل يمكنني أستعادة طعم كأس البيرة الأولى، لا أظن، هل تمكّن أولئك الذين ظنوا السوء بما تشرب وتستطعم، أو الذين قالوا بحُرمتها عليك، من تتبع مسارها الذهبي في مريئك بحرقه الألف، وهي تختال الاوردة والشرايين اللاهبة، وهي تتهادى في جوفك، أو وهي تزيل اللهب والتعب والاصدقاء النافلين . لا أظن ذلك أبداً.
  لا يُطفئ الماءُ الباردُ حرارةَ الصيف، مثلما تطفئها كأس البيرة الأولى، وبعيداً عن التحليل والتحريم، قريبا من الحاجة والنفع رحت تقول لي بأن اجدادنا السومريين هم أول من صنع الجعة، وعنهم أخذت الأقوام صناعتها والتفنن في جودتها ومناسبات شربها، وسألتك ما إذا كانت أرض السواد حارّة كما هي اليوم، حدثتني عن الوالي العثماني الذي قال بقطع النخيل إن كانت هي مصدر الحرارة في تموز وآب، وهنا أردتُ أنْ أدخل معك مدخل الفلاسفة والاطباء في حديثهم عن الحياة، وما يتطلبه العيش فيها، ولأنني لا أحسن الحديث هذا، وجدتني مجدفاً على مدارس اللاهوت، التي ظلت تمنع اطايب الطعوم عنا، نحن بني الارض، بذور مسراتها الأكيدة.
 أنْ تتصل بأكثر من بائع مستتر للخمرة في المدينة، فلا يدلك واحد منهم على ضالتك، ولا يهديك أحدٌ منهم إلى زجاجة بيرة واحدة، لهو السخف بعينه، أنْ تسأل أصدقاءك وأتباعك ومن تبعهم بالخمرة الى يوم الجمعة والسبت فلا يُجيبك أحدٌ، لهو الفقر والفاقة والعوز بعينه. أيَّ مدينة هذه التي لا ترويك من ظمأ ولا تشبعك من سهر، ولا تحميك من قاتل، أي مكان هذا الذي تريد أن تصبح به شاعرا، كاتباً، فنانا مبدعا تستجلب الجوائز لبلدك وأنت عاجز عن صناعة لحظة استثنائية فيه، أي البلاد هذه التي يقتلك حرُّها ويستريح جسدُك على رمضائها ويسخر منك شُذاذ آفاقها، ويستبيح جُهدك ووقتك وأناقتك أتفه الناس فيها، أي البلاد هذه، التي تقف عاجزة عن تأمين ليلة حمراء لعظمة جسدك وأنت تستصرخه فتوةً على أحد أسرتها، أي مدينة هذه التي تطاردك انساناً كاملاً وتستبيحك روحاً استثنائية وتنتهك شاعراً، صانعا للجمال ؟
  ليمتنع عن اللذائذ من يريد، وليتعفف عن سماع الموسيقى والغناء والرقص كما يشاء، ومن يريد، وليحرم نفسه طعم كأس البيرة الأولى من يريد، وليسرق نهارا جهاراً، أكان على وضوئه أم بدونه من يريد، وليقف مندداً بجسده، متطلعا لفنائه، محرّقاً روحه بآثامه، لاعناً، معتذرا من يريد. أنا لي جسدي ولي روحي ولي انفاسي لا أبذلها لأحد سواي، ولا أبخسها حقها، ولست بحاجة لنصيحة أحد، لي ربي الذي أعرفه، مثلما لكم أربابكم الذين تعرفون. مررت بالذي مررتم عليه، ووقفت على الصحيح والضعيف والمسند والمنحول، وخبرت الخير أقربه وأبعده، وتجنبت الشر أفحشه وأوحشه، لكنني والله لن أشارككم حفل القتل الذي استمرأتموه، ولن أمد يدي لمال سرقتموه، ولن أمزّق راية أرادها شعبي للحمته، ولن يمرق سهمي من رميّة أهلي الى نحر احد منهم، سأظل على جواد النور أسعى، أضيء ما أعتم من بيوت الجيران، الأقربين منهم والابعدين. هكذا أريد ان ألقى ربي طاهرَ اليد واللسان، عفيف الروح والفكر، منتشياً بما شربتُ، مستقبحاً ما فعلتم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

عمليات بغداد تغلق 208 كور صهر و118 معمل طابوق وإسفلت

أسعار الصرف اليوم: 143 ألف دينار لكل 100 دولار

ترامب: أوقفتُ 8 حروب وأعدتُ "السلام" للشرق الأوسط

الأنواء الجوية: انتهاء حالة عدم الاستقرار وطقس صحو مع ارتفاع طفيف بالحرارة

حصار فنزويلا ينعش النفط… برنت وغرب تكساس يقفزان في آسيا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram