إلى عباس الصَّفار مثقفاً عبثياً
عُطالةُ جمال مصطفى التي ظل يمتهنها إلى اليوم، ومكتبة الجميع التي كانت في منتصف سوق (الهنود) المغايز، ومكتبة المثنى التي كانت تقابل سينما الوطني، وبارات مثل نبيل وهافانا وسرجون والشعب وآسيا بار وسينما الرشيد والكرنك ومقهى الموعد، ومن ثم مقهى عبدالله وإتحاد الشبيبة ووشّاح (أبو طلال) بائع الصحف، الذي يفترش الأرض قرب الجسر، ويبيع طريق الشعب وعشرات الأماكن والاسماء والقصص والحكايات ، بما فيها تلك التي رحتُ التهمها فمن كتب وقصائد وروايات لسارتر وسلامة موسى ورامبو وكولن ويلسن وسيمون ديبفوار وأكثر من عشر نساء صويحبات وخليلات، جميلات ومُحبطات، كنت آتي بهن من شارع بشار، هن اللواتي كنت أصحبهن الى كوخ أبي في بستاننا على النهر، ليلة كل خميس وجمعة. أشياء وأشياء أخرى كلها ساهمت في بعثرة حياتي، تطاير الساعات من حولي وتعزيز رغبتي في الانقطاع الى الحياة، أنا العطشان، المندفع، المجنون، الحسّي- كما وصفني عبدالزهرة زكي ذات يوم -القادم للمدينة من قرية صغيرة، المسكون بالشعر والعدمية واللاجدوى والخسارات.
ولأن المقهى مكانٌ خالصٌ للعبث والشعر وتضييع الوقت بما فيه معاينة مؤخرات النساء النازلات من شققهن مساء كل يوم، الذاهبات الى المراقص والحانات فقد كنت أول الداخلين اليها، ولأن المدرسة باب من أبواب الجد، طريق قصيرة الى الوظيفة، ولأنني مخلص وأمين للسيد الشاعر آرثور رامبو، فقد كنت أول المستمعين لنصيحته، فهو الذي سرَّني قائلاً: ( من السخف أن تبلى ثيابُنا على مقاعد الدرس) هكذا أسرعت وغادرت المدرسة! أحزنني حقاً مشهد بنطالي، هالني منظره وهو خلقٌ، رثٌّ، يتهرّأ يوما إثر آخر، كنت أجد أن الوقت لا يتسع لمزيد من الجدية والبحث والدأب، كان الشعر يترصدني، يدعوني لكي أكتبه. كانت حياة المدينة تلتهم جسدي مجوناً وفوضى، ووسط ثلة من الصحب، الناقمين على السلطة البعثية، شعراء ورسامين ومسرحيين وقصاصين وسياسيين... وجدتُني الأسعد والأخلص والأبهى.
ومثل كل الخارجين، غير العائدين الى المدرسة، أُجبرتُ على الذهاب الى دائرة التجنيد، التي لم تتوانَ لحظة عن قبولي. وهكذا دخلتُ مركز تدريب الجنود الجدد، الذي يقع أقصى شمال ضاحية الحكيمية، قرب نادي الضباط، ولم يمضِ الشهر والشهران حتى انتقلنا من هناك، حيث جاء ضابط أنيق ببذلة هي الأجمل بيننا، ليأخذنا الى مقر القاعدة البحرية، التي في الجبيلة قرب مصلحة الموانئ مع صحبة جديدة، يطيب لي أن أذكر منهم صديقي الى اليوم، الشاعر والمثقف العبثي والوجودي عباس الصفار أرتدي لباس البحر الابيض في الصيف، والازرق النيلي في الشتاء، وعلى دراجتي الهوائية أعود عصر كل يوم الى البيت. عملتُ هناك نجّاراً في تصليح زوارق الطوربيد، المصنوعة من الخشب الماهوجني القوي، تلك التي جلبها عبد الكريم قاسم من روسيا، قبل أن تستقدم القيادة البحرية الجديدة قاذفات الصواريخ العملاقة المصنوعة أبدانها من الحديد، والتي كانت تصطف واثبة على المرسى الجديد، ما كنت نجاراً من قبل، لكنني تعلمت ذلك من الجنود.
لم أنقطع عن المقهى، بل كنت حارسها وامينها الأبدي، لأنني الاسبق اليها كل يوم، لم تبل ثيابي على مقاعدها الكثيرة، كنتُ أشتري البنطلون والثاني والثالث من فضلة ما أدفعه في الليل للسيدة ماري، أو مما تسامحني به إحدى صويحباتي، اللائي ما توانين يزرنني في البستان ليلة كل جمعة، وبين السنوات تلك 1973-1977 لم أكتب شيئاً ذا بال، كنت قد أقبلتُ على الحياة بما أوتيت من النهم والجنون. كان جسدي جائعاً وأصابعي تسرقني الى المزيد من الملذات. كنت أرى الوجود كله كامنا في إطلالة الأنثى وكأس الخمر وشكل النهد ودقة الخصر وفي كتاب الشعر وبين دفتي الاعمال الفنية كانت تحرضُ أخيلتي شعراً ووهما وموسيقى. لا، لم يكن الجدب واحدا مما أعرفه، أبداً، كنت وفياً لأبي الذي ألبسني الحرير صغيراً ولم يقذف بكيس أمتعتي الليلية كبيرا، كيس الاقداح والمحارم والعطور والمصابيح وما يتبقى من خمرة الليل، ذاك الذي كنت مخبئه، وعثر عليه تحت شجرة العنب، التي تطاولت أفرعها فخالطت الرض والسماء.