TOP

جريدة المدى > سينما > "دردمات" سعد سلمان.. تشريح لمأساة وطن اسمه العراق

"دردمات" سعد سلمان.. تشريح لمأساة وطن اسمه العراق

نشر في: 28 يوليو, 2016: 12:01 ص

(2)وهكذا نراه يختلق  صوتياً أجواءً مفزعة ، وهذه فكرة إخراجية ذكية من جانب المخرج، وينفذ مسرحية  إعدامات جماعية وهمية  لقاطني الزنزانات الأخرى المفترض وجودهم ولم نرهم قط لكي يسمع السجين الأستاذ زهير حمام الدم المرعب وصرخات الألم للقتلى&

(2)

وهكذا نراه يختلق  صوتياً أجواءً مفزعة ، وهذه فكرة إخراجية ذكية من جانب المخرج، وينفذ مسرحية  إعدامات جماعية وهمية  لقاطني الزنزانات الأخرى المفترض وجودهم ولم نرهم قط لكي يسمع السجين الأستاذ زهير حمام الدم المرعب وصرخات الألم للقتلى  حتى يوحي له بأن دوره لم يأت بعد  لكنه قادم لامحالة في أية لحظة  ومن ثم تعمد الجلاد العريف  جبار استثناءه  من وجبات الإعدام الجماعي ما أوجد لدى المشاهد المتلقي شعوراً بعالم غريب خليق بمبدع كبير من مسرح العبث هو صموئيل بيكت .

كل شيء موظّف لخدمة تكوين شحنة نفسية تعمد المخرج إيصالها  للمتفرج في هذا الجزء الزمكاني القابع تحت الأرض بفضل تحكمه المقتدر بالانتقالات  وزوايا التصوير  والضوء والصوت  والمؤثرات السمعية البصرية الأخرى لكي تحول هذا الواقع العياني إلى ما فوق الواقع ، ونقله إلى حالة من العبث  المحصور بشخصين وسلسلة من الحوادث التي تربطهما والتي لانعرفها إلا من خلال كلام الجلاد وحواره الأقرب إلى المونولوغ  لاسيما عند تذكّره  ساعات التعذيب والضرب التي يدّعي أنه كان مرغماً عليها ومجبراً على تنفيذها وكان يتألم وهو يقوم بها وبالطبع لايعترف لضحيته بأنه ربما كان يتلذذ بتنفيذها عليه في حقبة النظام الذي أفرزه هو وأمثاله بعد أن جردهم من كل إحساس بالذنب وعندما كان ذلك النظام ثابتاً وراسخاً ومستقراً كالجبال التي لايمكن لأحد أن يزحزحها إلى الأبد. ولكن بعد حدوث الزلزال تحسس الجلاد بفطرته وخبرته البدائية باقتراب الخطر وشعر أنه ربما سيكون في مكان الضحية في أي وقت وعليه الاستعداد لذلك ما دفعه للإعداد لمسرحيته بذكاء وفطنة مستغلاً انقطاع ضحيتة عن الخارج وافتقادة لأية قدرة على تقرير مصيره.
كان هذا الفصل  الفيلمي  بطيئاً وانسيابياً كأنه فيلم مستقل قائم بذاته  قبل أن تحدث الطفرة الإخراجية بالانتقال من الـ"تحت" إلى الـ"فوق" .يمهد المخرج لهذه الانتقالة الحادة بمشهد مليء بالمعاني ومتخم بالرموز والدلالات العميقة عندما يتوسل السجّان بالسجين بأن يأخذ دوره فيلبسه قميصه وساعته ، أي يمنحه زمنه الخاص ، ليحمله كامل المسؤولية التي قد تقع فوق كاهله في القريب العاجل فيحاول أن يلقنه دوره وما عليه أن ينطق به أمام السادة الجدد وذلك بالترهيب والترغيب، وعندما خرجا معاً إلى الـ"فوق"  انكشف جهل وغباء السادة الجدد وصدقوا مايقال لهم وصاروا يأخذون بالظاهر كما يبدو لهم وتلخّص أو تختزل كل ماحدث في الـ"تحت" وما يحدث بعد ذلك في الـ"فوق" بمجرد عضة إصبع مزيفة مستغلاً جرحاً عرضياً في إصبعه أثناء إعداده الطعام لسجينه لكي يغريه . فصار الجلاد أمام السيد الأمريكي مجرد ضحية يصرخ ويبكي ويستغيث من عضة السجين السابق الذي قدمه على أنه هو الجلاد وتحول هو إلى ضحية ومرّت المسرحية  لتؤكد تلك الثنوية  المضحكة ـ المبكية  وتصبح هي العمود الفقري والدعامة  الجمالية والأسلوبية التي يستند إليها البناء الفيلمي في نصفه الثاني الذي يدور في الـ"فوق" أو الخارج العاصف  والصاخب كأنه فيلم آخر بنفس الأبطال ولكن بزمكان آخر غير ما كان سائداً في أجواء الـ"تحت" .
كل مادار في ذلك الـ"تحت" يمكن أن يشكل مفاتيح لفهم وإدراك واستيعاب ما حدث ويحدث وسيحدث في الـ"فوق" فكل إشارة، وكل كلمة، وكل صورة، كرّست هذا المعنى والرابط بين العالمين متمثلاً بجسدي البطلين  الضحية والجلاد الأستاذ زهير والعريف جبار ومعهما الرابط الزمني الذي يقيدهما إلى بعضهما البعض وهو الساعة التي تعني الزمن والوقت  الملتصق بجسد الضحية أينما ذهب وليذكره في كل لحظة في وعيه ولا وعيه ، في واقعه وخياله، بأن جلاده مازال موجوداً وسيتحول إلى كابوس يقض مضجعه حتى بعد خروجه إلى فضاء الحرية. فهو يتخيله في كل زاوية وكل خطوة يخطوها وفي كل مكان يرتاده . نراهما يسيران معاُ في المكان الخارجي بصورة متوازية ولايتقاطعان إلاّ ثلاث مرات: الأولى عندما يلمح السجين السابق جلاده وهو يرتدي الزي العربي التقليدي كشخصية اجتماعية مهيبة ومحترمة وذي وجاهة وهو يتبختر  لكنه لايصدق عينية وصار يشكك بنفسه رغم أنه تعرف عليه لكنه لم يجرؤ على الاقتراب منه لتنكر الجلاد بزي غير الذي اعتاد الضحية السباق على رؤيته ، والمناسبة الثانية كانت في محل لبيع الشاي والمرطبات وكان اقترابهما أكبر حيث تحقق لقاؤهما في نظر المشاهد فقط المتلقي للمشهد البالغ التأثير وذلك عبر المرآة وهي لقطة من أجمل وأذكى ما قدمه المخرج في فيلمه العميق هذا. والمناسبة الثالثة هي التي يحصل فيها اللقاء الفعلي ، وربما المتخّيل في مخيلة السجين ليس إلا  ولماذا لا؟ حيث يجد السجين بعد مشوار مضني ومرهق نفسه داخل سيارة تاكسي يقودها جلاده نفسه ، وكأن المخرج يريد أن يقول أن الجلاد كان وهو الآن وربما في المستقبل هو الذي يقود دائماً بعد أن ركب موجة التغيير الفوضوي وتكيّف مع الواقع الجديد الذي قد يكرر حيثيات الماضي دون تغيّر الأدوار بل المظاهر الخارجية فقط وهذا ما ندركه ونستوحيه من الحوار الذي استغله المخرج بفعالية عالية ومابين تلك الوقفات الثلاث للّقاء الممكن أو المزعوم، أي تلك الومضات الزمنية الثلاث المنسلخة من الزمن العام، والمقتطعة من جريان الزمكان البغدادي، نشاهد ثقل ومرارة وقسوة وبشاعة الواقع العراقي إلى حد الغثيان ونستشف النقد اللاذع وسخرية المخرج مما يدور على أرض ذلك الواقع الذي تحول إلى عبث سوريالي غير قابل للتصديق ومع ذلك فهو موجود . السجين  السابق مازال سجين واقعه الجديد ومازال يبحث عن هويته التي فقدها طيلة ثلاثة عقود في مرحلة الـ"تحت" ويريد أن يستعيد حقه وأصله الذي محاه وسلبه منه النظام السابق وأزاله من كافة السجلات ، حتى بيت العائلة أزيل من الوجود وصودر وبني مكانه جسر فما كان من السجين سوى أن يسكن تحت الجسر داخل حطام سيارة كأنه يحنّ دون أن يدري لزنزانته السابقة وأنه مازال مسجوناً في لا وعيه ورغماً عنه ومازال يعيش في زنزانته المحدودة الأبعاد ويدور كل يوم كالمجنون وهو يكلم نفسه و"يدردم" في رحلة البحث الشاقة و يصطدم بكل شيء . فكل شيء غريب عنه ، كل شيء تغير ولم تعد له صلة بماضيه، يشعر كأنه يسير في عالم آخر منبثق من الحلم ولكن على صورة كابوس والجميع يتحرك داخل هذا الكابوس كالدمى لا يعرفون شيئا ولا يدرون ما يحدث لهم وكلهم مصاب بالصدمة ويبدون كأنهم منفصلون عن هذا العالم القاسي واللاواقعي رغم واقعيته الشديدة وهذه هي المفارقة الذكية من قبل المخرج لأنه واقع لايصدقه  أحد ويشعر المتلقي أنه واقع ملفّق ومختلق ومفبرك ومزيف ابتكره المخرج لضرورات درامية من أجل أبطاله لكي يتحركوا داخله ويقدموا شحنتهم العاطفية ورسالتهم السياسية بينما الحقيقة المرّة هي  أن المخرج لم يصنع واقعاً آخر أو يتدخل في ما هو موجود بل صوّره كما هو وثائقياً وسخّره أو وظّفه روائياً وهذه التفاتة أسلوبية وجمالية رائعة ومبتكرة عند المخرج وإضافة أسلوبية جادة للغة السينمائية الحديثة.نلاحظ أن حالة الانفصال بين الماضي والحاضر لدى الجلاد أقل حدّة إذ سرعان من يهضمها ويستوعبها وينجح في أن يتكيّف مع الواقع الجيد ويطوّعه  لصالحه حيث يتدرج من بائع قناني غاز على عربة يجرها حمار أجرب هو كهرب الذي أصبح أحد أبطال الفيلم وصار بمثابة القرين للجلاد وموضع أسراره وضحيته الجديدة التي يمكنه القسوة عليها دون حساب حيث يسقِط على الحمار كهرب كل إحباطاته لكنه يستمر  لثقته بالنجاح ثم يتدرج إلى مواقع أخرى بعد أن هدد حماره بأنه سيبيعه ليشتري تراكتور ومن ثم يرتقي إلى مرحلة أعلى وهي شراء سيارة والاندماج بالمجتمع الجديد وكأنه شخص بكر ليس له ماضٍ ملطخ بالدم ومطرز بالذنوب  أي كأنه شخص لم يقترف أية جريمة أو ذنب فهو بريء وخالٍ من التهم ولايمكن لأحد أن يدينه أو يكون شاهداً على ماضيه سوى السجين السابق الأستاذ زهير الذي يصطاده في سيارة التاكسي التي يستخدمها ليقوده في رحلة مجهولة الاتجاه والمصير لا ندري إلى أين  ربما إلى الدرجة السفلى من الـ "تحت" السابق للحاق برفاقه السابقين في مقبرة بعد أن ينهي حياته هذه المرة بشكل فعلي بعد أن تردد في بداية الفيلم في إعدامه رغم تفكيره بذلك كحل يخلصه من ورطته وهذا الإيحاء ممكن ومفتوح لكل مشاهد يحق له تأويل الرسالة الفيلمية الخافية  ولمَ لا أليست هي عملية تشريح تهدف  للعثور على الحقيقة؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

فيلم ارك.. الدخول غير الآمن لبوابة الزمن الافتراضي
سينما

فيلم ارك.. الدخول غير الآمن لبوابة الزمن الافتراضي

أحمد ثامر جهاد رغم أن فيلم (ARQ-2016) للمخرج "توني ايليوت" الذي يتواصل عرضه في صالات السينما العالمية، يُصنف كفيلم خيال علمي، إلا أنه قد خلا تقريبا من كل ما اعتدنا مشاهدته في هذا النوع...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram