في الوقت الذي كان بيكاسو يعيش في مرسمه الصغير بمدينة باريس سنة 1905، فقيراً معدماً حاله كحال أغلب الرسامين الشباب الذين جمعتهم مدينة الفن آنذاك، حيث لا توجد لديه كهرباء ولا تدفئة، وكان كل مايخفف عنه وعن الباقين هو تواصلهم مع بعضهم والصداقات الجميلة التي ربطتهم. وقتها حين كان بيكاسو يبحث عن ذاته كرسام، تلقى دعوة من صديقه الهولندي توم سخيلبروت (1882- 1930) لزيارة مقاطعة شمال هولندا. وهكذا حمل بيكاسو بعض أدوات الرسم ودفتراً صغيراً للتخطيطات وسافر الى هولندا للقاء صديقه الذي تعرَّف عليه في باريس، وبالذات في كابريه ( لابان أغال) وكان توم وقتها قد بدأ بنشر مقالات فنية عن لوتريك وكيس فان دونغن ورينوار ورودان وحتى عن الراقصة الشهيرة والمثيرة للجدل (ماتا هاري). كان توم بانتظار صديقه الاسباني الشاب وقد هيأ له بيتاً صيفياً قضى فيه فترة وجوده في مدينة ألكمار، حيث صورهم شقيق توم بصور بقيت شاهداً على تلك الأيام وروعة تلك الصحبة وعكست أهمية هذه الزيارة التي لا يعرفها الكثيرون. زار بيكاسو أسواق المدينة التي أدهشته وهناك رأى الفلاحات الهولنديات الجميلات اللواتي بدأ برسمهن، وقد أثرت عليه كل التفاصيل التي شاهدها، حتى أنه بعد عودته الى باريس قد سأل إن كان باستطاعته الحصول على بعض الصور عن المدينة وعن سوق الجبن الشهير وعن تفاصيل أخرى شاهدها هناك وكانت جديدة عليه تماماً.
حملت نفسي وذهبت الى مدينة ألكمار متجهاً لمتحف ستيدلك حيث واجهتني يافطة واسعة جداً مكتوب عليها اسم المعرض الذي نويت زيارته ( بيكاسو في هولندا) ، هذا المعرض الجميل والذي يستمر لمدة شهرين، ويعكس تلك الزيارة الفريدة التي قام بها بيكاسو الى هذه المدينة المحاطة بالقنوات المائية. بعد أن دخلت الى المتحف تركت كل شيء وبدأت أبحث عن لوحة ( ثلاث فتيات هولنديات) الرائعة والتي كانت الحد الفاصل بين المرحلة الزرقاء والوردية لرسامنا الفذ. بعد أن أرتشفت حلاوة هذه اللوحة الجميلة عدت لأتابع المعروضات بهدوء ورويّة حيث عرضت مجموعة كبيرة من التخطيطات والأعمال التي نفذها بيكاسو في تلك الزيارة، ويذكر توم بأن بيكاسو قد قام بجلب أدوات الرسم معه، هو الذي اضطر الى كسر بعض الأجزاء من فرش الرسم الطويلة كي تستوعبها حقيبته الصغيرة. وقد رسم دفترين كاملين، والدفتر الثاني كان قد اشتراه من أحد متاجر مدينة ألكمار. ملأهما بمشاهدات من المدينة حيث وثق الأشخاص والطواحين وبعض المشاهد الطبيعية. ورسم كل ذلك بالأقلام والأحبار والغواش والألوان المائية، وقد كتب في الزاوية اليسرى العليا لكل دفتر تاريخ السنة (1905) مثلما كتب في أعلى بعض التخطيطات اسم مدينة ألكمار. ورغم انغماسه بتلك الأجواء وتمتعه بها لكن ذلك لم يمنع شوقه الى باريس، وهذا يظهر من خلال التخطيط الذي رسمه من خياله لصديقه الشاعر أبولينير.
في إحدى زوايا المعرض عرض بشكل خاص كرسي صغير, سلّطت عليه إضاءة مميزة وتجمع حوله الكثير من الجمهور، اقتربت أكثر لأرى الكرسي الذي يعود لتلك الزيارة، حين كان بيكاسو يقضي بعض الأوقات في المقهى القريب من سكنه، وقد أنجز الكثير من التخطيطات هناك. وبما أن كراسي المقهى كانت ذات مساند جانبية كبيرة، تعيق بيكاسو الشاب صغير الحجم والذي لا يتعدى طوله 163 سم، لهذا جلبت له صاحبة المقهى كرسياً بدون مساند ليجلس عليه وهو يرسم التخطيطات، وهكذا وُضع الكرسي في إحدى زوايا المقهى كنوع من الترحيب بالرسام الشاب. وبعد عودة بيكاسو الى باريس، حملت المرأة الكرسي وأعادته الى العليّة حيث الاشياء القديمة التي ليست بحاجة لها. وبقي هناك الى أن جاءت ابنتها بعد سنوات عديدة ووجدت الكرسي الذي سمعت عنه بعض الحكايات من أهالي الحي، وهذه الأخيرة تركته لابنها فيما بعد، والذي منحه في السنة الماضية للمتحف الذي جعله الآن أحد المعروضات الأساسية لهذا المعرض. ذهب بيكاسو ومضى الجميع واختفت الكراسي ذات المساند الجميلة، وبقى هذا الكرسي الصغير وهو يقف بسيطاً، بدون مساند ليشير ويؤرخ لتلك الزيارة النادرة.
كرسي بيكاسو
[post-views]
نشر في: 29 يوليو, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...