حين خطوت خطواتي الأولى في مجال الكتابة ، في ذلك الوقت كنت أنشر مقالاتي في مجلة الثقافة التي يرأس تحريرها المعلم صلاح خالص ، هناك كنت أشاهد الروائي الكبير فؤاد التكرلي بأناقته الشبيهة بنجوم السينما ، وهو يجلس يضع رِجلاً على رِجل ينهمك في نقاش حو
حين خطوت خطواتي الأولى في مجال الكتابة ، في ذلك الوقت كنت أنشر مقالاتي في مجلة الثقافة التي يرأس تحريرها المعلم صلاح خالص ، هناك كنت أشاهد الروائي الكبير فؤاد التكرلي بأناقته الشبيهة بنجوم السينما ، وهو يجلس يضع رِجلاً على رِجل ينهمك في نقاش حول الأدب ، في ذلك الوقت كان صلاح خالص يبشر بالواقعية الاشتراكية وضرورة ان يلتزم الأدب بالدفاع عن قضايا الناس .. فيما التكرلي يبتسم وهو يرد بكلمات منتقاة عن فوضى الأدب وهذا الكم الهائل من الكتّاب الذين لا وجهة لهم ، ويضرب التكرلي مثلاً بالأعمال العظيمة ، وأسمع منه حديثاً شيقاً عن رواية دون كيشوت التي كنت قد قرأت ملخصاً لها في مجلة تراث الانسانية ، وتتناهى إلى سمعي كلمات مثل بروست والزمن الضائع ، ولم يكن اسم مارسيل بروست غريباً علي، فقد قرأت عنه في العديد من المطبوعات ، وكنت اقتنيت روايه له بعنوان " غرام سوان " صادرة عن سلسلة كتابي الشهيرة ، واتذكر حينها انني لم افهم من الرواية شيئا سوى مقدمة حلمي مراد التي يخبرنا فيها ان هذه الرواية جزء من عمل ادبي كبير ، وكنت أعتقد ان لا أحد من الذين يتحدثون عن مارسيل بروست تمكن من قرأة روايته الشهيرة "البحث عن الزمن المفقود" التي كانت الأجزاء الأولى من ترجمتها إلى اللغة العربية قد صدرت عن وزارة الثقافة السورية ، واتذكر اني قرأت ان الروائي المصري نجيب محفوظ استطاع خلال عمله موظفاً بالأوقاف ، ان يحصل على نسخة أصلية لرواية بروست الشهيرة، البحث عن الزمن المفقود ، بالفرنسية وقدعكف على قراءتها بتأن وصبر حتى انها اخذت من وقته عاماً كاملا .
كنت أنتظر زيارة التكرلي الأسبوعية لمجلة الثقافة كي أسمع منه حديثاً عن الرواية ، كما لو أنه يتحدث عن عينين تبصران في الظلمة ، كاشفاً لنا عن تصوره للرواية وهو يتحدث بحميمية عن هذا الفن :"ملايين الصفحات من الكتابة الروائية على مدى العصور تعبر عن ذواتها وتفصح عن طويات نفوسها وتبثّ أحزانها وأفراحها وتعلن عن أفكارها ومشاريعها وشكوكها .. أي أنها تمارس عملية بوح مستمرة ، عملية البوح هذه جعلت روائياً مثل مارسيل بروست يكرّس حياته ليخرج للعالم ملحمة روائية تجيب على سؤال : من أنا".
************
كان في التاسعة حين أصيب بأول نوبة ربو ، وكاد يموت تحت بصر والده الذي قال لأمه : لا أعتقد ان هذا الطفل سيعيش حتى عمر العاشرة ، كان ذلك عام 1880 حيث تعوّد مارسيل بروست ان يصعد إلى غرفته الصغيرة يحلم بأن تطبع أمه على وجنته قبلة الخلود إلى النوم ، استلقى على سريره ليلاً يحصي ما كرهه في ما حوله ، ملابس النوم التي يتخيلها مثل الكفن ، والساعة التي تتوسط الغرفة تعد الوقت مثلما يعده أبوه . يقول جيرمين بيريه صاحب الكتاب الشهير "التخلص من الزمن" الذي ترجمه إلى العربية نجيب المانع أحد دراويش مارسيل بروست "في كل صفحة من ملحمة بروست البحث عن الزمن المفقود كانت هناك أشباح غرفة النوم حيث نجد موضوع غرفة النوم كاللحن المعاود يعزف أمام أعيننا ثم يتلاشى فاسحاً للنغم الذي يليه ".
كتب روايته الوحيدة التي تتألّف من سبعة مجلدات، وأربعة آلاف صفحة ومليون ونصف المليون كلمة وأكثر من ألفي شخصية في " البحث عن الزمن المفقود" كما جاء في الترجمة العربية التي بدأها إلياس بديوي في نهاية السبعينات وتوقف عند الجزء الخامس ليكمل ترجمة الجزءين الأخيرين المترجم جمال شحيذ عام 2005 ، الذي تمنى لو ان الترجمة العربية كانت بعنوان "في البحث عن الزمن المفقود" ،لأن سباعية بروست هي بمثابة بحث روائي عن الزمن .. حيث تبدأ الجملة الأولى في الجزء الأول بكلمة " زمن " وتنتهي الرواية بهذه الكلمة أيضا .. ويحصي الناقد تشارلز مورجان في "الكاتب وعالمه" المرات التي جاءت بها كلمة الزمن في الرواية لنجدها 1637 مرة .
في مراهقته، حرم من لقاء فتاة أحلامه "ماري بيرناداكي" التي كانت من أكبر غرامياته التي أخبره أبوه ذات يوم أن عليه ان يقطع علاقته بها بسبب صيت أمها، أدمن الوحدة بناءً على وصايا أمه بالحفاظ على صحته الضعيفة ، بعد واحدة من خلواته الليلية ، جلس في غرفته يقرأ مرتجفاً من البرد ،قدمت إليه خادمته سيلين فنجاناً من الشاي مع صحن من الكعك الذي ما أن وضع قطعة منه في فمه حتى غمره شعور بالنشوة ، أغمض عينية ليسترجع ماضياً كان قد اعتقد لسنوات أنه دُفن بين رُكام الذاكرة. أعاده طعم الكعك إلى بيت عمته التي كانت تحضّر له كلّ صباح هذا النوع مع كوب من الشاي. .ليتجه بعدها إلى مكتبه الخشبي يخرج الأوراق ليخط الجملة الأولى في روايته : " كثيرا ما أويت الى سريري وكانت عيناي احيانا حالما اطفيء شمعتي ، وتغمضان بسرعة لاتدع لي متسع من الوقت اقول فيه " أنني انام " .
عام 1913، ظهر الجزء الأول من الرواية بعنوان "جانب منازل سوان" على نفقة المؤلف نفسه بعد رفض معظم دور النشر الفرنسية نشر الكتاب ، والغريب ان أندريه جيد الذي كان يرأس لجنة القراءة لدى دار النشر الشهيرة "غاليمار" هو الذي أوصى بعدم نشرها .
وكان بروست قد بعث برسالة الى الناشر غاليمار عام 1912 يقول له فيها انه يفكر في طبع رواية بجزءين ويطرح على الناشر اسئلة تتعلق بالطباعة ، فيجيب الناشر في رسالة تتضمن العبارات التالية : "يمكننا اخراج مجلدين من 550 صفحة ويمكننا طرح الجزء الاول للبيع في اذار من العام المقبل ." ويقترح بروست فيما بعد على الناشر ثلاثة اجزاء بعنوان رئيسي " تقلبات القلب" . المجلد الاول بعنوان فرعي " الزمن المفقود "، والمجلد الثاني بعنوان " في ظلال ربيع الفتيات " والمجلد الثالث بعنوان " الزمن المستعاد " . وفيما كان بروست يعتقد بإمكان اصدار الرواية في الأشهر القادمة ، يرضخ الناشر غاليمار في النهاية الى لجنة القراءة التي يراسها اندرية جيد والتي وجدت في الكتاب الضخم مجموعة خواطر تفتقر الى الحبكة الروائية ، لكن اندرية جيد يعود بعد أعوام ليبدي اسفه على رفض الرواية ويكتب مقالاً في مديح بروست واصفاً الرواية بأنها تحفة فنية : "إن معنى رواية بروست ليس ذاتياً محضاً ، تبعاً لذوق كل فرد وهواه ..فالمؤلف يدفعك منذ البداية إلى سؤال الأسئلة ، وليس فقط الأسئلة الواضحة أو التي لا محيد عنها .. إن القارئ ربما يشكو أحياناً من أن بروست يحجب عنه التفسيرات حتى عندما يسهل عليه أن يفسر ، ولكن هنا يكمن خطأ القارئ في فهم طبيعة الرواية البروستية ".
لم يعتمد بروست على أحد الأساليب المشاعة في الكتابة الروائية، بل صنع لنفسه أسلوباً خاصاً ومختلفاً يقوم على الجمل الطويلة والعبارات المكررة والشروح اللامتناهية والتفاصيل المكثفة، ممّا يجعل من قراءة الرواية أمراً مجهداً. لكنّه أراد كما قال لمربيته سيلين أن يدحض مقولة " البساطة تصنع الجمال " ، ليثبت أنّ التعقيد أيضاً قد يصنع الجمال. . ويخبرنا مترجم النص العربي جمال شحيذ في مقدمته للجزء السابع من الرواية : " كنت أقع أحياناً على جمل عملاقة تبلغ 35 سطراً، فأحار في البداية من أين أبدأ، ما كان يدفعني إلى قراءة الجملة مرات ومرات. وأحياناً كنت أقطّع الجملة جملتين أو أكثر.. أما الصعوبات المتمثلة بالإحالات التاريخية أو الفنية أو الفكرية، فكنت أحلها بالعودة إلى القواميس والموسوعات. وإزاء بعض الجمل الضبابية كنت أسأل أصدقائي الفرنسيين، وفي غالب الأحيان كانوا لا يفهمون بروست أكثر مني، فألجأ إلى تشجير هذه الجمل كي تتبدّى روابطها ومفاتيحها في المحصلة. وتفنن بروست في تلوين جمله وهندستها، فتارة هي حلزونية، وطوراً هي إهليلجية، وأحياناً مستقيمة مثل الألف الحق، وأحياناً أخرى هي جرفية تشبه تضاريس أرض تركت فيها البراكين كثيراً من النتوءات والمهاوي. ومما جعلني أقدم على هذه الترجمة هو إعجابي بعبقرية هذا الرجل الذي سمّاه البعض ملاك الليل" .
يكتب صاموئيل بيكت : "إن القارئ لملحمة بروست هذه لا يمكن له أن يمرّ سريعاً على المقاطع التي يقف فيها الروائي عند الأحاسيس التي ترزح تحتها شخصياته" ،علماً أنّ معظم شخصيات الرواية مستوحاة من أشخاص عرفهم بروست وعاشرهم وعايشهم في حياته، لا سيما من قلب المجتمع الاستقراطي الذي عاش فيه. وفي لحظات معينة، قد تتحوّل الرواية في عيون قارئها إلى آلة تصوير تلتقط أدق المشاعر ، لكنّ بروست، الرجل ذا الحساسية المفرطة، انتبه إلى خطورة انفلات الزمن من بين يديه. وبدلاً من أن يترك للزمن فرصة أن يتتبعه، ارتأى أن ينقضّ هو على حركة الزمن ليصطاد منها اللحظات الهاربة .
ولعلّ البعض يسأل كيف يمكن ان نقرأ رواية بكل هذا التعقيد؟ يجيب الناقد الشهير هارولد بلوم في كتابه "كيف نقرأ ولماذا" قائلا :" كيف نقرأ رواية بروست بصفة خاصة .. نقرأ بحب إذا كانت قادرة على إشباع حب قارئ ، وبغيره لأنها يمكن أن تكون صورة لمحدودية الإنسان في الزمان والمكان ، ومع ذلك يمكن ان تعطي أنصار بروست بركة المزيد من الحياة ".
يبرع بروست في رسم الشخصيات عبر تصوير دواخلها. ولأنّ قرّاء بروست عرفوا أن شخصياته مستقاة من الواقع، صاروا يحاولون في كلّ مرة إسقاط الشخصيات الروائية على شخصيات عاشت معه، قائلاً: وهذا ما كان يُزعجه لأنّه أراد لشخصياته أن تظلّ محصورة في عالمها الروائي كشخصيات قائمة في ذاتها.
************
في مساء السابع من تشرين الثاني عام 1922 قال بروست لأحد اصدقائه إنه إذا عاش هذه الليلة فإنه سيثبت للأطباء انه أقوى منهم ، ومن بين هؤلاء الأطباء كان أخوه روبرت الذي توسل لمارسيل من أجل ان يعالج في عيادة طبية ، ما حدا بمارسيل منعه من دخول البيت . لقد كان بروست يتشاءم من عيادات الأطباء ، فهو يتذكر أن أمه أخبرته انها كادت تموت عند ولادته وانه ولد عليلاً ومحتاجاً للرعاية ، كانت تنتابه مخاوف ليلية ، وكان يغرق كل مساء في حزن عميق ، فهو ضعيف البنية شديد الحساسية وفوق هذا هو مدلل والدته ، التي ارتبط بها بشكل عنيف ، وقال لأمه ذات يوم انه يفضل ان تنتابه أزمة الربو وتظل أمه بالقرب منه لاتفارقه ، في يومياته التي نشرت بعد وفاته نجد حنيناً مفرطاً لهذه الأم :"انتِ التي تحبينني، لا تجعليني ابتعد عنك ، فالموت ينتظرني في الخارج."
وفي البحث عن الزمن الضائع يحاول بروسيت تذكر الماضي مع أمه ، أن يتذكر أيام طفولته الأولى ، حين كانت أمه أحياناً ترفض الصعود الى غرفته لتطبع قبلة على جبينه قبل ان ينام ، أراد ان ينتشل الأيام الماضية من هوة النسيان ، وهو يلتقي بالصدفة السعيدة التي تمكنه من ذلك حين عاد ذات يوم ممطر ، وكان قد تخطى الثلاثين من العمر حزيناً ، مهموماً ، فعرضت عليه أمه التي رأت انه بردان ان يشرب قليلا من الشاي ، وعندما وافق أرسلت من يشتري له نوعاً من الكعك اسمه "ادلين الصغيرة" غمس قطعة منه في الفنجان ثم رفعها في الملعقة الى شفاهه، وفي اللحظة التي مست فيها الجرعة الممزوجة بفتات الكعك سقف حلقه ، انتفض منتبهاً الى التحول العجيب الجاري في أعماقه، لقد اجتاحته : " نشوى لذيذة ، منعزلة دون معرفة سببها ، أحالتني فجأة لامبالياً أمام تقلبات الحياة ، محصناً ضد كوارثها ، وأحالت قصرها وهمياً بنفس الطريقة التي يفعل بها هذا الحب ، مالئة إياي بجوهر نادر ، او بالأحرى هذا الجوهر لم يكن فيَ ، لقد كان انا .لم اعد اشعر بنفسي تافهاً ، عرضياً ، فانياً. " .
************
في أواخر أيامه شعر بروست بصعوبة في الكلام ، حين زاره أندريه جيد وجده شاحب الوجه ، مرتجفاً رغم أن الجوّ لم يكن بارداً، فيكتب : أعتقد أنها النهاية ،فقد وجدته مريضاً للغاية ، قبلها بأيام كان فرانسوا مورياك قد أجبره على تناول الطعام بصعوبة فيما بروست يقول لضيفه : "لا تتصور كم كنت قريبا من الموت ." قال لمربيته: حان الوقت "لمناداة الأطباء"، كان يهمس بصوت مضطرب :أمي ، ثم دخل في حالة غيبوبة .. يسرع أصدقاؤه إليه فيجدوه هادئا فاتحاً عينيه ممسكاً بيد شقيقه الذي طالما تحدث معه عن الماضي، عن أبيه عن أصدقائهما القدماء .. لم يستمر طويلاً في تذكر الزمن ،فقد كان شبح الموت أقرب إليه . ينظر جان كوكتو إلى المدفأة التي تكدست فوقها دفاتر "البحث عن الزمن المفقود" ليكتب بعدها في رثائه "للأسف كان يسبق عصره ، إنه مثل ستندال الذي لم نعرف قيمته أثناء حياته" .