لم يعد صعود نجم المرشح الجمهوري دونالد ترامب يُثير مخاوف العالم هذه الأيام، لا سيما بعد كسره التوقعات وفوزه رسمياً بالترشح كمنافس قوي أمام هيلاري كلينتون. إنّ ما يُثير الرعب بالفعل، هو المخاطر الناجمة عن انتشار وتنامي الظاهرة "الترامبيّة" من أُوروبا إلى أميركا.
فقد باتت الترامبية بتحالفها مع اليمين الغربي الصاعد، تشكل كابوساً يُهدد بإفراغ الديمقراطيات من مضمونها، وتمهّد لعودة نوع متطوّر من الديكتاتورية التي تفرض سطوتها بفعل خطاب شعبوي يُغري الكثيرين.
ورغم تباهي الامريكان بتنوّعهم العِرقي والديني، وحساسيتهم المفرطة ضد أشكال التمييز التي تحظرها قوانينهم، إلّا أنّ ذلك لم يمنع من صعود نجم ترامب وتفوّقه على العشرات من مرشحي الحزب الجمهوري. لم يتوقف جمهور ترامب عند خطابه العنصري الشعبوي، واستهانته بالنساء والمعاقين، لأنهم وقعوا أسرى تجربته كرجل أعمال ناجح، ومقدّم برامج، ونجم فضائح يملأ الشاشات وصفحات الصحف. وإذا كان لكل عصر نجمه، فإن ترامب أصبح نجم جيل السوشيال ميديا في الولايات المتحدة هذه الايام.
وهذه بالذات الخلطة المناسبة لصناعة ديكتاتور معاصر، يمكن استنساخه بنسخ محليّة قابلة للتعايش مع النظم الديمقراطية، بذات الطريقة التي ولدت فيها النازيّة والفاشيّة من رحم الديمقراطيتين الألمانية والإيطالية. ومما يعزز المخاوف في هذا الصدد، تعكّز الظاهرة "الترامبية" في خطابها على متبنيات اليمين الغربي الذي يندفع بقوة في كل من بريطانيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا.
إذن فنحن أمام ولادة "ديكتاتورية معولمة"، تستخدم الثورة التكنولوجية ووسائلها، لإحكام القبضة على المجتمعات بفعل خطاب غرائزي وشعبوي يحاول زعزعة سلطة العقل والقانون، وهما أهم معطيات الحداثة.
إننا في الحقيقة أمام سلفية غربية لا تختلف كثيرا عن سلفية داعش التي أعادت إحياء الماضي بكل وحشيته في منطقتنا العربية والإسلامية. وما يعزز هذه المقاربة هو اتساع دائرة المعجبين بظاهرتي داعش وترامب في أوروبا وأميركا بشكل متزامن؟!
عراقيّاً يمكن تلّمس بوادر ولادة "الظاهرة الترامبيّة" التي تحاول تجاوز القوانين والمؤسسات الدستورية اعتماداً على خطاب شعبوي يتعكز على تفشي الفساد والمحسوبية بين الطبقة السياسية.
لكنّ الخطورة تكمن في أنّ الترامبية العراقية أوسع دائرة، وأخطر تأثيرا، لأنها لا تقتصر على النخب السياسية كما هو الحال في النسخة الأميركية أو الأوروبية.
ومن هنا فبالإمكان الادعاء ان "الترامبية العراقية" بلغت ذروتها ونضوجها خلال الاسبوع المنقضي، بعدما كانت تمر بمرحلة جنينية منذ قرر رئيس الوزراء حيدر العبادي إطلاق حزم إصلاحه قبل عام من الآن.
وإذا ما أرّخنا لولادة هذه الظاهرة بشكلها المتكامل، بواقعة اقتحام البرلمان في نيسان الماضي، فإن مرحلة النضوج والاختمار يجب ان يؤرخ لها بجلسة استجواب وزير الدفاع يوم السبت الفائت.
فكلنا شاهد الشعبية التي اكتسبها الوزير، على صفحات التواصل الاجتماعي، بمجرد سوقه اتهامات يصعب إثباتها او يستحيل بحسب إفادته أمام البرلمان. وشاهدنا ايضا كيف حاول البعض، خلال الجلسة، تصيّد إشارات خاطفة للإيقاع بخصومه واستخدامها كمادة لشحن جمهوره وزجّه في حالة من التوتر الغرائزي.
العدوى الشعبوية ذاتها، هي التي دفعت رئيس وزرائنا لإصدار أمر يمنع بموجبه سفر الاشخاص الذين وردت أسماؤهم على لسان وزير الدفاع. لكنه اضطر بعد ساعات للاعتراف بأنّ هذا الإجراء هو من اختصاصات القضاء حصراً!
قبل ذلك شهدت ساحة التحرير نصب المشانق وسط تظاهرة تدعو لإصلاح النظام الديمقراطي الذي يضمن ويكفل دستوره حرية التعبير والاحتجاج السلمي.
ايضا، فإن النزوع الشعبوي، الذي قدمته لنا "الترامبية" بنسختها العراقية، منع بعض الصحفيين من ملاحقة قصص الفساد وحوّلته الى ناشط يردد هتافات سياسية، ويدوّخ نفسه بتلفيقات النواب ضد بعضهم.
لقد وضعتنا جلسة الاستجواب الاخيرة امام صورة صادقة لترسخ الظاهرة الترامبية في برلماننا عندما طالب نائب بحل المؤسسة التشريعية، واعتقال زملاء له، متجاوزاً بذلك السياق القانوني لرفع الحصانة البرلمانية.
وان ما يضاعف مشاعر الرعب من استفحال عدوى الترامبية في بلادنا، هي محاولة إعادة إنتاجها على صورة جنرال يداعب عواطف الجمهور. يلقي القانون بأقرب سلة مهملات، بينما يستبدل الجمهور الحبال بأهازيج التيجان المصطنعة!
صورة لـ"ترامب" العراقيّ
[post-views]
نشر في: 3 أغسطس, 2016: 09:01 م