كلّما مرّت ذكرى عَلَمٍ من أعلام العراق، أشعر بالمرارة والأسى وحالة العبث التي وصلنا إليها، ومثلما مرت بصمت ونكران جميل ذكرى رحيل قامات العراق: الجواهري، علي الوردي، الأثري، البياتي، لفّ النسيان ذكرى مرور 150 عاما على ولادة علّامة العراق الأبرز الأب أنستاس الكرملي.
كانت المرة الاولى التي أقرأ فيها عن فلسفة التسامح، كان مقالا منشورا بمجلة مصرية قديمة جداً اسمها "الإثنين والدنيا "ومؤرخ في سنة 1932 تحت عنوان، فولتير وفلسفة التسامح بقلم العلامة الاب انستاس الكرملي،وقرأت المقال فوجدت فيه تلخيصاً لكتاب "رسالة في التسامح "حيث يقول الكرملي ان هذه الرسالة تعد من بين أهم ما كتب عن موضوعة التسامح بين الأفراد والمجتمعات.ويخبرنا الكرملي انه سيتفرغ لترجمة هذه الرسالة عن الفرنسية لما لها من أهمية للمجتمعات والشعوب العربية التي ترنو نحو السلم وبناء الأوطان، هكذا اكتشفت أننا العراقيين سبقنا الجميع في الحديث عن فكرة التسامح، التي كانت جزءاً من تفكير هذا الشعب المتجانس قبل ان يلتهمهم حوت التعصب والطائفية، وقبل ان تستفحل ظاهرة سياسيي الطوائف التي أخذت تتفشى في قطاعات عريضة، الجانب الجوهري فيها هو كلما أصبحتَ طائفياً وعنصرياً وهددتَ وقتلتَ وهجّرتَ وشردتَ وصرختَ وشتمتَ واستخدمتَ كل ما لا صلة له بالقانون يمكنك أن تنجح! والأخطر أن الناس قد تهابك وتخاف منك،، وأصبحنا نرى برلمانيين ووزراء يستخدمون الورقة الطائفية لإقصاء خصومهم، ووصل الأمر إلى حد أن تغلق وزارة بأكملها لمكون طائفي واحد، لا لشيء إلّا لكون الوزير ينتمي لهذه الطائفة أو تلك!
ولكي نفهم رسالة الكرملي الفكرية ونفهم جيله ونفهم العراق كيف كان آنذاك، لا بد أن نبدأ بأسماء الذين اختارهم لمجلسه الشهير في كنيسة اللاتين،من مصطفى جواد، إلى كوركيس عواد، ومن مير بصري، إلى عباس بغدادي، إلى جلال الحنفي، إلى حامد الصراف، إلى عباس العزاوي، إلى علي الشرقي وأيضا صديقه الحميم الشيخ محمد رضا الشبيبي، وقد اعتاد الكرملي ان يضع في مواجهة زائريه لوحة كتب عليها"ممنوع الحديث في الدين والسياسة "
المسيحي الذي رأى مسيحيته في الاسلام وحضارته المشرقية في تاريخ العرب. وانتماءه الوجداني في أشعار المتنبي وأبي العلاء، كان الكرملي نخلة العراق، ومجمع علومه ولغته، أمثال الكرملي وكوركيس عواد والجواهري والوردي والاثري، لم يكن أثرهم فقط في الفكر والثقافة، وإنما أيضا في تنوير العقول وإشاعة المعرفة الممزوجة بالتسامح والالفة.
وبعد مرور مئة وخمسين عاماً على ولادة صاحب الفكر الوهاج، نكتشف ان العراق الذي كان منبرا للثقافة والشعر، تحول الى حلبة يتصارع فيها الكربولي مع الجبوري، والفتلاوي مع عواد العوادي.
بالتاكيد أنا لستُ سعيدا بما أراه واسمعه من تافه القول السياسي، بدليل انني كنت انوي ان أُخصص عمود اليوم، للاحتفال بدخول صحيفة المدى عامها الرابع عشر، هذه لصحيفة التي قررتْ منذ اليوم الاول لتأسيسها ان تكون واجهة المجتمع المدني المدافع عن حقوق الإنسان،وأن يكون صوتها قوياً صادحاً بقضايا المحبة والتسامح مستلهمة افكار الكرملي، ومتطلعةً لعراق مدني، يكون فيه صوت محمد مهدي الجواهري أعلى من صوت المالكي والنجيفي.
الكرملي وذاكرة المدى
[post-views]
نشر في: 5 أغسطس, 2016: 07:28 م