TOP

جريدة المدى > عام > ملاحظات في ثقافة الحوار السياسي

ملاحظات في ثقافة الحوار السياسي

نشر في: 7 أغسطس, 2016: 12:01 ص

هذا موضوع من تلك الموضوعات التي تضعنا في مفترق الطرق. فنحن في السياسة نريد كسباً وإن بالزوغان. ونحن في السلوك الإنساني، في الأخلاقية المحترمة، نريد قيماً. وبلا قِيَم لا مدنية ولا دولة، من ثم، لا حضارة. لا احد يستطيع ان يقول لنا بحضارة قامت على زيف وب

هذا موضوع من تلك الموضوعات التي تضعنا في مفترق الطرق. فنحن في السياسة نريد كسباً وإن بالزوغان. ونحن في السلوك الإنساني، في الأخلاقية المحترمة، نريد قيماً. وبلا قِيَم لا مدنية ولا دولة، من ثم، لا حضارة. لا احد يستطيع ان يقول لنا بحضارة قامت على زيف وبطلان وسرقات وغدر قد تستعمل أي الوسائل، وهذه منها، لكسب جولة او مناورة. لكن لا أمة متحضرة بلا قيم . بلا قيم ما معنى الحضارة ؟

في العمل السياسي منافسة. والمنافسة تعني أن أكسب أنا لا أنت. وإذا تصافينا على مشترك ، فهذا يعني إضمن أنت ربحي واضمن لك ربحك. وحتى الآن نحن نعمل بمنطوق تجاري نفعي. والسياسة، شئنا أم لم نشأ، تعتمد "الانتفاع" و الكسب على حساب السوى حتى ضمن التوافقات او ما قد يترسم بصفة ما يسمى "الجبهة الوطنية مثلا"..
لكن السياسة وعي. والسياسة رجل متقدم في الوعي المدني. ويعتمد فكراً، او نظرية، او فلسفة، فهو له رؤية وله هدف يسعى لتحقيقه. الهدف لا ينفصل تماماً عن كل القيم- على العكس، يتزيّا بها في الممارسة العملية، في التطبيق. يتراجع الوعي أمام الغوغائية الكامنة. المثال يخسر بعضاً منه والقيم لا تظل بتماسكها. وهذا ما شهدناه في التجارب السياسية التي مرت علينا. النكران ليس في صالح أحد. علينا ان نعترف بما تم، بما حدث، لكي نصل الى مفهومات، الى نتائج يمكن اعتمادها في الرؤية او في التنظير.
مدى تراجع النظرية امام الطفح الغوغائي الكامن، يحدّد مدى ثبات التحضّر ومدى قوة ورسوخ التمدّن.
ولان هذه المسافة بين "سلامة" الرؤية و "خطأ" التطبيق هي المسافة الصعبة التي تقرر النجاح او الفشل، لذلك نجد انفسنا في هذه السلوكيات المشينة، في هذا اللا استقرار المدني نُفاجأ بخسارة الوعي في الطريق .
ان يكون لك خصم في السياسة أمر لا بد منه. لا يمكن ان تسيطر او تهيمن والا انتقلنا الى الدكتاتورية والسلطنات وأزمنة الطغاة. لكن بوجود خصم يحَدد منطقك السياسي ويمتهن مدينتك. هل تستطيع في محاولة الانتصار او الكسب ان ترى فضيلة او فضائل خصمك؟ هل تحترمها؟ هل تقرُّ وتقول بمسوّغات حضوره، باهميته؟ أم تمسحه باهتمام وشتيمة وتغلق الباب عن رؤيته وسماع افكاره؟
هذا حديث لا يقول به احد بين رجال الفكر والسياسة او بين المثقفين هو بعض ما يُلقّن به الأطفال في رياضهم ومدارسهم ان يستمع لمن يتكلم ، الا يقاطع احداً، ان لا يغضب كثيراً إذا لم يعجبه الكلام، الا يشتم، الا يترك محدّثه ويغادر من غير كلمة توديع او اشارة اعتذار.. نحن في بلداننا، لا احد من كبارنا يمكن ان ينجو من رد سيئ او من انفعال يتجاوز اللياقة مما يسمع او يقرأ. اما اذا اختلفت معه فكرياً او سياسياً، فما أسهل أن يسقطه، فهو عميل أو هو انتهازي او هو توفيقي وكأن التوفيقية سُبّه!
مشكلة الديموقراطية عندنا تربوية قبل ان تكون نظريات وافكاراً .. انظر لما في وسائط التواصل الاجتماعي من شتائم وتعابير هابطة لمن يكرهون او يتهمون او لمن يخالفونهم. الادب والتهذيب مطلوبان في كل حال ولا عذر لمثقف في التهاتر وقذف الكلمات البذيئة حتى لمن يكره ويدين. يمكن ان نستاء بأدب وأن ندين ولا نهبط . مرة، وأنا استمع لندوة نقاشية بين اثنين من الأساتذة الانجليز وقد اختلفا فكرياً.. بعد انتهاء الوقت المحدد ومغادرة القاعة، قلت سيختصمان وقد يتشابكان بالايدي خارج القاعة. لكني بعد نصف ساعة من ذلك رأيتهما يلعبان كرة المنضدة (البنج بونج) في صالة الكلية!
وتاريخنا العربي الحافل بالقسوة ، حافل ايضاً بالقيم الاخلاقية والفروسية، وباحترام النفس اللازم لاحترام الآخر. سأذكر لكم اليوم ما قرأته في السفر الثالث من "نهاية الارب" لشهاب الدين النويري، وفي الصفحة 176 منه:
" دخل ضرار بن صخرة الكناني على معاوية بن ابي سفيان ، فقال له: صف لي عليّاً. فقال له، أوَ تعفيني؟ فقال: لا أعفيك. قال معاوية: أما إذا لا بد فإنه كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً. يتفجر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من نواحيه. يستوحش من الدنيا وزهرتها ويأنس بالليل وظلمته. كان والله غزيرَ العَبرة، طويل الفكرة، يقلب كفّيه ويخاطب نفسَه، يعجبه من اللباس ما قصرْ ومن الطعام ما خشُن. كان والله  كأحدنا يُدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه. وكان مع تقرّبه إلينا وقربه منا لا نُكلّمه هيبةً له. يُعظمّ أهلَ الدين، يحب المساكين، لا يطمع القويُّ في باطله ولا ييأس الضعيف من عدله..."
هذا خصم يصف خصمَه السياسي لكن الخصومة لم تتلف كل شيء عنده، هو ظل محتفظاً بالقيم الاجتماعية والأخلاقية التي تكسبه احتراماً عند الناس. هذا الكلام أفاده هو أكثر مما فاد خصمه لانه استكمل به شخصيته كزعيم!
هل ينفعنا هذا المثال، وقد مضى عليه اكثر من الف واربعمئة سنة ونحن في طريق التحضر، ما عدنا نفخر بفضائل الساسة وحتى في الخلاف الثقافي. أي منا ومن الآخرين قد يخطئ في سلوك او في رأي او لا يوفق في اجتهاد وقد يرى نفسه مخلصاً مصيباً ونراه نحن خلاف ذلك.
لكن ما الذي يميز المثقفين عن العوام ؟ وما الذي يميز جلاس المنتدى او المكتبة عن السوقة ومن حُرموا من فرصة الثقافة والحياة المدنية ؟ هل تقرأون "الفيسبوكات" المقرفة؟ هل شاهدتم او سمعتم ما يجري بين "نواب الشعب"؟ هل حدثكم احد او حضرتم انفسكم مشاداتٍ وخصومات في المنظمات او الاتحادات وما يشوب ذلك من سقوط في اللغة والسلوك؟ الآخر ضدّك في شيء ولكنه ليس ضدك في كل شيء. هو ليس عدواً. هو مواطن مثلك، سياسي، اديب، تاجر أو خبير او استاذ في حقل معرفي. المدى الانساني النظيف بينكما واسع وفيه الكثير من الرحابة واللطف. لا تتلف حقلاً كاملاً بسبب شوكة وخزتك فيه! وإذا كنا نرتضي ذلك في العابر من الأمور، يصعب ارتضاؤه في مسائل تخص الوطن والمستقبل وامن وحياة الناس التي تستوجب نقاشاً وحرصاً ومن ثم خلافات في الرأي. فساد الرأي وخطأ الرؤية لا يستوجبان فسادَ القيم. الأدب الأدب في الخطاب! فقد صرنا نخجل مما نرى ونسمع!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram