في لحظة فارقة من تاريخ العالم ، أدى انهيار المنظومة الاشتراكية الى ردود فعل لم تكن محسوبة أومتوقعة، بل أنها تدرج في عداد المفارقة على صعيد الثقافة العربية والعراقية بخاصة لدى بعض ممن يتبنون الفكر اليساري، إذ اتجه قسم من أهل اليسار المصدوم بانهيار الحلم الاشتراكي إلى تبني انتماءات قومية، وانخرط آخرون ممن كانوا يدعون امتلاك الحقيقة الايديولوجية المطلقة في مسبحة الأصولية الإسلامية التي تدعي امتلاكها لحقيقة مطلقة أخرى ، واكتشف قلة من معتنقي الثقافة اليسارية عند هذا المأزق عن افتقار فكرهم المقولب إلى بدائل عقلانية تستند إليها خطوتهم التالية ، فاختاروا طرقاً مختلفة لمداراة وجع الخسران والنكوص، وتمسك البعض الآخر تحسباً من الغرق في طوفان العولمة الهادر بالفكرة القومية مبرراً للدفاع عن الهوية وأخذ يغذي مشروعه من سرديات عتيقة تستدعي معها بروز النزعات القبلية وفقه التأصيل ، واختار البعض منهم الانضواء تحت راية الأصولية الإسلامية وتحولت مرجعيته الفكرية في ارتدادها العنيف من ماركس وهيغل ولينين وانجلز الى فقه ابن تيمية والغزالي وغيرهما .
لعل بعض هؤلاء الذين ترنحت خطاهم ومواقفهم الفكرية والثقافية مع ترنح البوصلة كانوا يبحثون عن ذواتهم في هذه الفكرة أو تلك ولم يكن انحيازهم لليسار جذريا او راسخا في أية لحظة ، وقد نفترض بالبعض الآخر براغماتية غير معلنة ترى في الانحيازات الجديدة المتاحة لهم - باغراءاتها الكثيرة - نجاة من عوزٍ أو فوزاً بمكانة أو تنصلاً من ماض ٍ بات يؤرق البعض الآخر منهم ، اولئك الذين يشهدون صعود القوى الدينية بفضل ديموقراطية زائفة فيلوذون بأذيالها ، وغير هؤلاء واؤلئك ثمة من ثبت على ثقافته الايديولوجية السابقة محتفظاً لنفسه بتاريخ يصعب الفكاك منه ، لكنه تحالف مع قوى تكفرّه وتعده ممن يتوجب استبعادهم من الحياة العامة بل ومن الحياة ذاتها ، لأنه ببساطة ممن يتبنون قيماً ثقافية مختلفة تعلي من شأن العلم والفن والمعرفة وتأثيرها الايجابي في تحرير العقل وبناء الشخصية الانسانية وتطورها، ويؤمن بدور المرأة وشراكتها في بناء المجتمع المعاصر ويعمل على اعلاء مكانتها والاعتراف بقدراتها الخلاقة وامكاناتها و أعلن رفضه لقوانين الأحوال الشخصية التي تحط من مكانة المرأة وتعدها محض اداة متعة للذكور منذ بلوغها التاسعة من عمرها ، وهو موقف يناقض تماماً ماتؤمن به وتعمل به وتعلنه تلك القوى الدينية التي تحالف معها ، ويبدو لي هنا أن هذا النمط من التحالف قد خُدع بما اقترحه عالم النفس والاجتماع ( اريك فروم) عن امكانية التحالف بين الماركسية والدين في لحظة تاريخية معينة.
لابد لي هنا من الإشارة إلى ملاحظة أساسية وهي أن تراجع الفكر اليساري لم يكن سبباً وراء انبعاث الأصولية الإسلامية بطوائفها المختلفة وصيغها المتباينة، بل أن النزعات الأصولية كانت متأهبة للانقضاض على المجتمعات وكانت لها مغذياتها ومنشطاتها ومواردها المالية على الدوام، مضافاً اليها لاحقاً ردود افعال الشعوب الاسلامية التي تشظت أوضاعها ووجدت نفسها أمام هاوية معتمة بعد تفكك المنظومة الاشتراكية التي كانت مرتبطة بها ، فلجأ بعضها إلى إحياء النزعات الدينية التي طال قمعها ليبلغ التشبث الارتدادي بها حد التشدد المقيت، وكان لابد لهذا التشدد ، ليديم وجوده ، أن يستعين بفئة الشباب ويحقنها بكراهية المختلف ويزين لها وسائل العنف في الدفاع عن عقيدتها وحقيقتها المطلقة فكان أن انتجت التطرف الذي يرى في سلوك طريق الإرهاب سبيلاً وحيداً لحل المعضلات البشرية العالقة منذ بدايات التاريخ.
البوصلة الثقافية تترنح بين الجهات
[post-views]
نشر في: 6 أغسطس, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...