كان على فراش موته في مطلع عام 2010 ، بين غيابٍ وصحو، حين سأل ابنته التي لم تفارق سرير مرضه : "هل مايزال الحب حاضراً بقوة عند الشباب ؟" قبل أربعين عاماً ، حين كتب أريك سيغال روايته الشهيرة "قصة حب" كان آنذاك يعيش حياة بسيطة كأس
كان على فراش موته في مطلع عام 2010 ، بين غيابٍ وصحو، حين سأل ابنته التي لم تفارق سرير مرضه : "هل مايزال الحب حاضراً بقوة عند الشباب ؟" قبل أربعين عاماً ، حين كتب أريك سيغال روايته الشهيرة "قصة حب" كان آنذاك يعيش حياة بسيطة كأستاذ جامعي يلقي على طلبته محاضرات في الأدب ، ويقرأ كل يوم فصولاً من روايته الأثيرة "ذهب مع الريح" ، ويحلم ان يصبح نجماً محبوباً من النساء مثل كلارك غيبل الذي أدى باحتراف دور "ريت بتلر" في الفيلم الشهير الماخوذ من الرواية." لكن سيغال وهو يمسك بيد ابنته ، تساءل مع نفسه عما إذا كان في حياته إنساناً طيباً، أراد ان يقدم تفسيراً جديداً للحب الذي ظل الكُتّاب والمفكرون يضربون أخماساً بأسداس وهم يحاولون حل لغزه ، حيث لم يوفق "أوفيد" الذي ظهر قبل أكثر من ألف عام تاركاً القضاء والسياسة متفرغاً لكتابة موسوعته "فن الهوى" في ان يدرك سر العشق ، وحين عصفت الأهواء بشيخ مثل تولستوي انزوى جانبا ليسطر ملحمة الحب في "انا كارنينا."
ظل سيغال يشرح لطلبته ويحدثهم عن كبار الكُتّاب الذين تركوا لنا أحكامهم عن العشق . ومن خلال آثارهم نعرف أن ستندال كان مغرماً بزوجة جاره فقرر ان تكون بطلة عمله الكبير"الأحمر والأسود"، ونعرف أن د.ج.لورنس الذي كتب اعنف قصص الغرام ، لم يقبل ان يرى ضعفه سوى شخص واحد هو محبوبته ، وان شاعراً مثل لويس أراغون يضع آلاف القصائد ونحو 60 "رواية" من أجل معشوقته إلزا ، وكان مواطنه فلوبير قد قسّم الحب الى أربعة أشياء :عاطفة، وذوق، وحس ، وكبرياء .
لكن إريك سيغال لم يكن مغرماً بأراغون ، ويعترف ان الحب لايمنحك الحق بأن تصبح مجرد ظل لمحبوبتك ، ولا هو سبب للهلاك ، مثلما كتب أراغون يوماً لإلزا : "يا حبي العظيم، يا سبب هلاكي، الحب السعيد لا يمكن أن يوجد".
************
كانت مرغريت تعاني من كسور في العظام ، وهي منذ ثلاث سنوات لاتستطيع مغادرة الفراش ، تقضي ايامها ولياليها بقراءة الروايات ، وذات يوم يسألها وهو يشير الى أكوام الكتب التي تكدست حولها : "لماذا لاتكتبين روايتك الخاصة" ، المرأة الصغيرة ذات العينين الزرقاوين والمولودة عام 1900 ، كانت كل مساء تذرف الدموع وهي تعيد قراءة صفحات من رواية الكسندر دوماس الشهيرة "غادة الكاميليا" ، ولا تزال تتذكر كيف أن أمها عاشت حياتها مغرمة بهذه الرواية ، وقد أخبرتها أنها أصرت ان تسميها مرغريت تيمناً باسم بطلة الرواية التي تواجه أخلاق المجتمع الزائفة ، فتموت وحيدة بعد ان وقف الجميع ضد قصة حبها مع الشاب أرمان دوفال
حين نشر دوماس الابن روايته "غادة الكاميليا" عام 1848 كان في الثالثة والعشرين من عمره، ولم يتوقع ان تحقق هذا النجاح الكبير الذي حوله ،بين ليلة وضحاها، من كاتب مغمور الى نجم تطارده المعجبات. الجميع يسأله عن الفتاة مرغريت غوتييه التي كانت تشتهر بحبها لأزهار الكاميليا ، وحكايتها وكانت مرغريت على وشك إقامة العائلة الأرستقراطية الثرية، الذي هامت به وهام بها و حين يبدآن في عيش حكاية غرام حقيقية تريد مرغريت عبرها أن تبتعد عن عالم اللهو الذي انغمست فيه، أملاً في أن يعطيها الحب طهراً تتوق إليه. وإذ يخيل إلى العاشقَين أن الحب ونبله سيدومان معهما إلى الأبد، يأتي تدخل والد آرمان، الذي يجن جنونه حين تتناهى إليه حكاية الحب بين ابنه ومرغريت ، فيسارع إلى لقائها ويقول لها إن حبها لابنه سيؤدي إلى دمار مستقبل الشاب، وسيقف عثرة في وجه مستقبله وتدفعها ونزعتها الإنسانية الى الاقتناع بمنطق الأب فتقرر بأن تضحي بنفسها وبحبها من أجل سعادة آرمان وسمعته ومستقبله.
أعادت مرغريت في ذهنها أحداث رواية دوماس الشهيرة ، ثم أمسكت القلم ووضعت أمامها مجموعة من الأوراق ، وبدأت تكتب : "لم تكن سكارلت أوهارا في الحقيقة فتاة خارقة الجمال ، لكن قلما كان الرجال يستطيعون مقاومة فتنتها الساحرة ، كان وجهها جذاباً ، أما عيناها فتلمعان بنظرات لاسعة كالسياط " . ستدور أحداث الرواية التي لم تختر اسماً لها في مدينة اتلانتا التي عاشت فيها طفولة سعيدة ، أمضت ساعات تكتب وحين انتهت أخفت الصفحات تحت الوسادة ، لم تكن تريد ان يعرف زوجها أنها أخذت بنصيحته ، كانت مقتنعة بأن محاولتها في الكتابة ستكون لها وحدها ، لأنها لن تجرؤ على نشر هذه الصفحات التي خطتها على أوراق ملونة وبأحجام مختلفة ، فالأمر أولاً وأخيراً ، هو محاولة لقضاء الوقت ، والتغلب على ضجر الرقاد في السرير لأكثر من ثلاثة أعوام .
لكن بعد أكثر من تسعة أشهر تبدأ الأوراق تتضخم ، ولم يعد الأمر سراً أنها تجرب حظها في الرواية ، فالفتاة النحيلة التي عملت في الصحافة كمراسلة لمدة سنوات في قسم المحليات ، كانت تدرك جيداً ان مايجري على ارض الواقع لاعلاقة له بالخيال ، فـ "جراند أوهارا" اللاجئ الايرلندي الذي دخل الولايات المتحدة عام 1848 قرر ان يقضي حياته في هذه المدينة ، فاشترى مزرعة وتزوج ، وها هو سعيد ببناته الثلاث ، إحداهن أطلق عليها اسم سكارليت ذات الشعر الأحمر والعينين الخضراوين والطباع الحادة ، والتي ما ان بلغت السادسة عشرة من عمرها حتى بدأت عيون الرجال تطاردها ، والجميع يطلب رضاها ، لكنها تختار أشلي ويلكس ، شاب عاطفي وحالم ، لكنه مغرم بفتاة أخرى اسمها ميلاني التي يتزوج منها ، ما يجعل سكارليت تفقد أعصابها ، وتقرر في لحظة غضب ان تتزوج اول انسان يتقدم اليها ، ويقع الاختيار على شقيق حبيبها أشلي ، وما هي إلا سنوات قليلة حتى تقع الحرب الأهلية الاميركية ، أشلي وشقيقه يذهبان الى القتال ، ويموت زوج سكارليت ، فيما يواصل أشلي القتال ، وخوفا من اقتراب نيران الحرب من أبواب اتلانتا ، تفكر سكارليت بالهرب مع ميلاني وطفلتها ، فتطلب من غني الحرب الشاب اللعوب ، ريت بوتلر مساعدتها ، تقضي شهوراً تتجول بين المنحدرات والغابات ، وما ان تضع الحرب أوزارها ، تقرر العودة الى مدينتها ، لكنها لا تجد الآن سوى بيوت محروقة ، الأم توفيت والأب أصيب بمرض عقلي بعد أن رأى عالمه الذي بناه بيديه ينهار أمامه ، لكن سكارليت تقرر ان تبني كل شيء من جديد معاهدة نفسها أن لاتهزم ثانية.
بعد أن علم الزوج أن مرغريت تواصل كتابة عملها الروائي أخذ يسألها بين الحين والاخر : أين وصلت الرواية؟
- لكنها ياعزيزي مجرد أوراق كتبتها للترفيه عن نفسي.
كان الزوج مقتنعها بأن زوجته المقعدة ، ليست في حالة صحية وذهنية تؤهلها للدخول الى عالم الأدب ، ولهذا لم يطلب منها يوماً ان يقرأ ما كتبته ، هذا إضافة الى أن خطها رديء ، لكنها لاتزال تطلب المزيد من الكتب ، كل شيء عن الحرب الأهلية ، مجلدات عن تاريخ أميركا وجغرافيتها ، يقول لشقيقتها :
– ليتني لم أقترح عليها ذلك الاقتراح.
وبعد أسابيع يسألها : ماذا سيكون اسم الرواية ؟
• "ذهب مع الريح" ، هذه العبارة التقطتها من قصيدة كانت قد قرأتها قبل أيام ، ثم أضافت : إذا ما انتهيت من هذه الأوراق فلن أعود للكتابة ثانية .
- كما تشائين قال لها ، وهو يلاحظ ان صحتها بدأت تتحسن ، كلما تقدمت في صفحات الرواية .
لكنها تواجه مشكلة ، فقد انتهت من كتابة الرواية باسثناء الفصل الأول الذي وجدت صعوبة في إكماله بعد ان كتبت السطورالأولى ، ولكن من سيهتم للفصل الأول ، اذا كانت الرواية لن ترى النور وسيقرأها المقربون فقط ، وذات مساء قالت لزوجها :
- لن أسمح لأحد بقراءة ماكتبت ، هذا قرار نهائي.
الا ان المفاجاة كانت في انتظار الجميع ، فقد وقعت الأوراق بيد ناشر مغامر ، كان يبحث عن مؤلفين شباب ، لكنه يواجه مشكلة رغم إعجابه بالرواية فهي بلا فصل أول : "ربما تكون هذه صرعة جديدة" ، قال لأحد العاملين معه . لكن قرار طباعتها كان قد اتخذ رغم ان مرغريت كانت عاجزة عن اكمال الرواية ، لايهم ليقرأها الناس كما هي . الناشر الذي كان يتوقع ان الخمسة الاف الاولى من الرواية التي طبعها ستباع خلال عام او عامين ، ولم يكن يحلم ان تصل المبيعات خلال العام الأول الى عشرة ملايين نسخة .
************
كان الشاب الثري أوليفر باريت ، يدرس القانون في جامعة هارفرد، لم يتوقع ان تسحره الصبية الجميلة جنيفر كافيلري ، والتي كانت تدرس الموسيقى، هو ينتمي الى أسرة ثرية تمارس السياسة والاقتصاد ، بينما هي فتاة من عائلة فقيرة والدها خباز ، لكن الحب بدأ يأخذ مجراه ، ولا مكان لأن نقول إننا آسفون.
ورغم أن الأحداث تجري في مطلع السبعينات من القرن الماضي، إلا أن أسرة ذلك الشاب ترفض فكرة زواجهما وتقف حائلاً دون تلك العلاقة، التي كانت تشعر كلاً من الشاب والشابة بالأمان والاستقرار والفرح ، حكاية على غرار روميو وجوليت لكن بصيغة اميركية ، الشاب يقرر تحدي أسرته فيتزوج من حبيبته ، ليجد نفسه يعيش في عوز مالي بعد ان عاش في امبراطورية مالية ، لكنه يواصل المشوار ويتخرجان من الجامعة ، وكان حلمهما ان يرزقا بطفل ، فيذهبان الى طبيب تحاليل بحثاً عن أسباب العقم ليكتشفا سراً خطيراً ، فجنيفر مصابة بسرطان الدم ، والموت يقترب منها ، الا انها تصر على مواصلة الحياة والحب بنفس المتعة والمسرة التي عاشتها مع حبيبها في الجامعة ، سيفرق الموت بينهما ، لكن الحب أقوى ، ولن يجعلنا نقول آسفون على أيامنا التي مضت ، وتموت جوليت الأميركية ، لكن الرواية التي لم يتجاوز عدد صفحاتها الـ 150 صفحة ترفض ان تموت فهي وعلى مدى سنوات، ظلت على لائحة الكتب الأكثر مبيعاً ، عشرات الملايين من النسخ توزع في كافة أنحاء العالم
ما السر؟ يتساءل الناقد الأدبي لصحيفة النيويورك تايمز.
الجواب : لانها رواية بلا مغامرات ولا بطولات ولامطاردات ، مجردة قصة رومانسية مؤلفها لم يحاول ان يتبع الأساليب الحديثة في الكتابىة ، لم يقترب من جيمس جويس ولا فرجينيا وولف ، وكانت أستاذته في الكتابة امراة ضعيفة البنية اسمها مرغريت ميتشل ، كتبت على سرير المرض رواية وحيدة اسمها "ذهب مع الريح" ، وحين تشفى وتستعيد عافيتها وتتذوق النجاح والشهرة ، تنتهي حياتها تحت عجلة سيارة مسرعة .
ومثل مرغريت ميتشل ، كان سيغال حائراً في الفصل الأول ، هل يبدأ الرواية بلحظة التعارف أ، م يبدأها من النهاية ، لتكن "ذهب مع الريح" مرشده الى هذا العالم العجيب والمدهش ، فتبدأ الرواية بلا فصل اول :"ما رأيك ياقارئي في فتاة ماتت في الخامسة والعشرين من عمرها وكانت جميلة وذكية ، أحبت موزارت وباخ وأحبتني" ، نحن أمام محاولة لاستثارة مشاعر القارئ ، وطوال صفحات الرواية يمضي المؤلف في وصف حياة الشابين ، يخصص الصفحات الأخيرة لوصف موت جنيفر بكل تفاصيله ، إنها قصيدة ألم، وليست قصة حب ، حتى أن قراء الرواية يظلون مسمّرين في أماكنهم تخنقهم العبرات ، وتخرج مجلة التايم بغلاف الرواية على صفحتها الأولى مع عنوان مثير : شباب أميركا يذرفون الدموع ، قصة حب تعيد الحياة الى روميو وجوليت .
لم يكتب سيغال رواية محكمة الصنعة ، ولم تدخله قصة حب الى قائمة الروائيين العظام ، لكنها جعلت منه لسنوات الكاتب الأكثر مبيعاً والأكثر شهرة ، يقول لمراسل التايم انه كتب رواية بسيطة جدا لكنه اعتنى بلحظات الحب والألم ، لقد كان يريد ان يقول للجميع ان الموت هو النهاية المحتومة ، ولكن رغم كل ذلك، يظل الحب هو الذي يرسم الحياة.
************
يبدو ان موضوع الحب الخالص هو موضوع يستهوي القراء منذ عصر الكلاسيكيات الشهيرة ، وانتهاء بقصص الحب الضائعة التي برعت السينما بتقديمها وكانت آخرها "تايتانيك". ويكتب اريك فروم في كتابه "فن الحب" : ان الانسان المعاصر يتوق الى الحب الضائع ، ويشغف به اشد الشغف . فما الذي كان سيحدث لو ان جولييت عاشت وتزوجت روميو ؟ وما الذي كان سيحدث لو ان سكارليت تزوجت أشلي ؟ ان الفراق والموت هما اللذان حافظا على حكايتهما الى الأبد، ويضيف فروم : وربما كان الحب المثالي مرتبطاً، بشكل ما، بتراجيديا الموت الجميل المبكر. ففي روميو وجوليت ، يرى البطل حبيبته، التي لايستطيع الحفاظ عليها ، تغيب عن عينيه بلحظة واحدة .
لم تكن رواية سيغال "قصة حب" ،كما هو شأن رواياته، نموذجاً للفن الحقيقي، يبدو ان سرّ ظاهرة نجاح الرواية، الذي بدأت مؤشراته تتضح منذ صدورها، يكمن في انسانيتها وسمتها التراجيدية. فسيغال يذكّر القارئ بعدد من الحقائق البسيطة المعروفة ابرزها أن المال ليس كل شيء عندما يتعلق الأمر بالمشاعر الانسانية، وان الحياة ليست سهلة وخالية من الهموم كما تقدمها الدعاية.وان الحب سيظل يعيش معنا برغم كل الظروف ، وان كلمة آسف لامكان لها في مواجهة المصاعب ، بعد قصة حب كتب سيغال عددا من الروايات ابرزها ، " قصة اوليفر" ورواية " رجل، أمرأة، ولد " و " الصف " وكلها تدور حول ثمن النجاح وأهمية الحب، والزواج، والاخلاص الانساني، وتصور الإغراءات والضغوط التي تجعل من الصعب على الفرد ان يعيش على نحو ملائم.
في اخر حوار معه قال اريك سيغال : " ان الحب جزء من نسيج وجودنا في الحياة ، ويجب ان نعيشه بكل تفاصيله ".