اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تحقيقات > العراق وعملية الاحتيال الكبرى

العراق وعملية الاحتيال الكبرى

نشر في: 10 أغسطس, 2016: 12:01 ص

بعد تفجير الكرادة الذي أودى بحياة الكثيرين أعلن وزير الداخلية العراقي محمد الغبّان استقالته من المنصب، وقال حينها ان السيارة المفخخة كانت قادمة من محافظة ديالى ما يعني أنها مرّت عبر العشرات من نقاط التفتيش المجهزة بما يفترض انها أجهزة كشف متفجرات. ال

بعد تفجير الكرادة الذي أودى بحياة الكثيرين أعلن وزير الداخلية العراقي محمد الغبّان استقالته من المنصب، وقال حينها ان السيارة المفخخة كانت قادمة من محافظة ديالى ما يعني أنها مرّت عبر العشرات من نقاط التفتيش المجهزة بما يفترض انها أجهزة كشف متفجرات. المعلومات المسربة عن التحقيق تذكر ان السيارة كانت تحمل 550 باوندا من المواد المتفجرة.  لقد اتضح ان جهاز مكتشف كرة الغولف المسمى "غوفر" هو واحد من أكبر عمليات الاحتيال القاتلة في العالم. نزل الغوفر الى السوق في سنوات التسعينات ومازال متوفراً في الأسواق بسعر 20 دولارا للقطعة الواحدة. شكله يشبه جهاز السيطرة البعيدة للتلفزيون ( الريموت كونترول )، مع هوائي المفروض ان يتحرك باتجاه كرة  الغولف المفقودة. مصمم الجهاز – ويد كوتلبوم من كارولينا الجنوبية -  ربما لم يكن يتصور الاستخدامات الأخرى للجهاز بما فيها تسهيل قتل الآلاف من البشر في أنحاء العالم.

الرسالة
تبين الوثائق المسرّبة من الحكومة العراقية انه في أحد أيام شباط من عام 2006 أرسلت شركة عراقية تدعى " واحة البادية " رسالةً الى وكيل وزارة الداخلية العراقية احمد الخفاجي تعلن فيها عن جهاز يدعى ADE 650 على أساس انه يكشف عن المتفجرات من بين أشياء أخرى. كانت الشركة تلعب دور الوسيط لشركة بريطانية تدعى ATSC . منذ الاجتياح الأميركي للعراق في 2003 بدأ البلد يعاني من عدد لا يحصى من التفجيرات على يد المتمردين. إذن ربما ليس من المفاجئ ان يرد الخفاجي في أيار 2006 على عرض الشركة العراقية، وشكّل لجنة من أربعة ضباط قاموا بفحص الجهاز وأوصوا بشرائه. ثم قام برفع مذكرة الى كبار مسؤولي الوزارة قال فيها ان الجهاز له قدرة على كشف المتفجرات والمخدرات ضمن دائرة نصف قطرها 650 مترا على الأرض، ومن مسافة 5 آلآف متر من الجو، و 98 قدماً تحت سطح الماء، و 32 قدماً تحت سطح الأرض. عندها طلبت وزارة الداخلية من جهاد الجابري، رئيس قسم مكافحة المتفجرات، إبداء رأيه الفني بالجهاز. كان رأي الجابري إيجابياً كرأي الخفاجي. في أيلول 2006 قامت الوزارة بخطوات لترتيب الشراء. انتهى الأمر بأن اصطحب الجابري تسعة ضباط آخرين – بينهم العقداء احمد مولى وجاسم جريان ومحمد شندي - الى لبنان حيث قاموا باختبار الجهاز في ت1 2006 وأكدوا ان وزارة الداخلية تقوم بالخيار الصحيح. في شباط 2007 وقّع العراق عقداً مع شركة واحة البادية لشراء 14 جهازاً بسعر 55 ألف دولار للقطعة الواحدة. خلال السنوات القليلة التالية أنفق العراق ما يقرب من 120 مليون دولار لشراء جهاز ADE 650  وجهاز ADE 651  المحسّن. في نيسان 2007 بدأت الوزارة  بتوزيع الأجهزة على نقاط التفتيش في أنحاء البلاد.
رحّب المواطنون بتلك الأجهزة مع شيء من الشك. يبدو ان هوائي الجهاز كان يتحرك عشوائياً، لذلك كانت السيارات تتوقف عند نقاط التفتيش ويسأل رجال الشرطة السائقين ما اذا كانوا يحملون سلاحاً أو عطراً حيث أخبروهم ان الجهاز يكشف أحياناً العطور بدل المتفجرات. من 2006 حتى 2008 انخفض عدد التفجيرات في العراق لكن ليس بفضل الجهاز، وانما نتيجة إدامة الزخم في عدد المقاتلين الأميركيين وظهور حركة الصحوات ضد تنظيم القاعدة ووقف النار الذي أصدره السيد مقتدى الصدر في آب 2007 والعمليات العديدة التي شنتها القوات العراقية بعد ك2 2007 ، كلها أدت الى انخفاض نسبة العنف بدرجة كبيرة – 90 % -  منذ أواخر 2006  و طبعاً نسبت وزارة الداخلية انخفاض نسبة العنف الى جهاز ADE.

غيضٌ من فيض
في آب 2009 وخلال مقابلة أجراها مكتب صحيفة نيويورك تايمز في بغداد مع عقيل الطريحي، الذي كان يشغل منصب المفتش العام لوزارة الداخلية، حول إحدى قضايا الفساد، قال الطريحي ان من بين تحقيقات الفساد التي فتحها مكتبه كانت دراسة عقد شراء الجهاز، في حينها كان الطريحي يعتقد ان القضية الرئيسية هي المغالاة في سعر الجهاز. بعد أيام قليلة ضربت سلسلة من السيارات المفخخة مباني حكومية في العاصمة أودت بحياة المئات. سأل رود نوردلاند،   نائب مدير مكتب نيويورك تايمز في بغداد، الجيش الأميركي في العراق عن الجهاز الذي من المفترض ان يمنع سفك الدماء، ولشدة دهشته أجابه اللواء ريتشارد روي المشرف على تدريب الشرطة العراقية حينها بأن هذا الجهاز لا قيمة له وانه شبيه بجهاز غوفر لكشف كرة الغولف والذي تبلغ قيمته 20 دولارا وانه مجرد لعبة لا تكشف حتى كرة الغولف. حينها ذهب رود لمقابلة الجابري في قسم مكافحة المتفجرات في وزارة الداخلية. فنّد الجابري كل الأسئلة عن الجهاز وأطلق على نفسه بأنه أفضل خبير متفجرات في العالم. قبل مغادرتهما حذّر الجابري قائلاً "اذا كانت المقالة المتوقعة سيئة فسوف أقاضيك". ظهرت المقالة في ت2 2009 وكشفت الفضيحة في أنحاء العالم. بعد أسابيع وخلال مؤتمر صحفي في بغداد دافع الجابري وجيمس مكورميك – صاحب شركة ATSC  المصنّعة للجهاز – عن جهاز ADE 651 . حضر الجابري المؤتمر بعد عدة هجمات بسيارات مفخخة عجز جهازه عن كشفها، لكنه دافع عنه مع مكورميك. بعد شهر تم اعتقال مكورميك في المملكة المتحدة بتهمة الاحتيال، وجرى منع تصدير الجهاز الى العراق وأفغانستان. عندما أعلن بلد المنشأ ان الجهاز وهمي كان الاعتقاد بأن البلد المشتري سيوقف استخدامه، لكن ليس هذا ما حدث. فالوثائق العراقية المسرّبة تبين انه في نيسان 2010  أصدرت هيئة النزاهة العامة – أعلى هيئة مسؤولة عن مراقبة الفساد في العراق – مذكرة قبض بحق الجابري؛ وجواد البلاغي المسؤول عن قسم العقود في وزارة الداخلية؛ و مولى؛ و جريان؛ وشندي من قسم المتفجرات لمشاركتهم في عقد شراء الجهاز. في حينها رفض وزير الداخلية جواد البولاني تسليم الضباط للقضاء العراقي مدّعياً ان الإجراءات المذكورة قد اتخذت أثناء "أداء الضباط لواجباتهم وليس هناك دليل على كونهم مقصّرين". في 2013 ، بعد ثلاث سنوات على تركه الوزارة وبعد عدة سنوات على كشف عملية الاحتيال، كان البولاني لايزال مصراً على ان الجهاز يعمل بدقة كاملة. بعد مغادرة البولاني المنصب وأصبح نائباً في البرلمان،  تولى رئيس الوزراء حينها نوري المالكي منصب وزير الداخلية بالوكالة في ك1 2010 . ورغم تجنّب الجابري الاعتقال في 2010 فقد تم اعتقاله في شباط 2011 ، وفي حزيران 2012 حكم عليه بالسجن أربع سنوات بتهمة الفساد في عقد شراء الجهاز، وكذلك حكم على مولى و جريان بنفس الحكم. كان عقيل الطريحي مقتنعاً بأن مكورميك قد دفع رشوة لما لا يقل عن ثمانية مسؤولين عراقيين لتسهيل شراء الجهاز، كما كان هناك همس في شركة ATSC بأن 15 مسئولاً عراقياً قد تسلموا ملايين الدولارات في لبنان للموافقة على الشراء. في أيار 2013 عندما حكمت محكمة بريطانية على مكورميك بالسجن عشر سنوات تبين ان من بين مشتري جهازه الممثل نيكولاس كيج لتأمين محل إقامته السابقة.
رغم كل الأدلة والقناعات بأهمية الجهاز، لم يوافق رئيس الوزراء نوري المالكي على وقف استخدامه، حيث قال خلال مؤتمر صحفي في أيار 2013 " بعض الأجهزة أصلية و قادرة على كشف المتفجرات، وبعضها الآخر - المشمولة بالدعوى القضائية - كانت وهمية. المشكلة الآن تتعلق بالأجهزة الوهمية، اما الأصلية فإن مشكلتها هي أنها تحتاج الى خبرة في استخدامها و يجب عدم الاعتماد عليها كوسيلة وحيدة لكشف المتفجرات". وحسب الوثائق الحكومية العراقية المسرّبة فإن المالكي أمر أيضاً في آذار 2014 بوقف كافة الإجراءات القانونية بحق البلاغي الذي يشغل اليوم منصب مدير صندوق شهداء الشرطة، الذي يقدم المساعدات لعوائل شهداء الشرطة الذين قتلوا أثناء الخدمة. المفارقة ان الكثير من شهداء الشرطة قتلوا في تفجيرات كان المفترض ان يكشفها الجهاز.

مهنة الاحتيال
كانت المملكة المتحدة سريعةً في مقاضاة مواطنيها بتهمة الاحتيال. مع ذلك فإن الشركة التي باعت الجهاز أساساً في العراق كانت عراقية، وكانت تعمل مع فصيل سياسي متنفذ. في الواقع ان وراء عقد شراء الجهاز تكمن واحدة من أسوأ حالات الفساد السياسي. رجل الأعمال العراقي فاضل الدباس هو الذي موّل عقد شراء الجهاز من خلال شركة واحة البادية، وقد أقر بدوره و نفى ارتكابه أية مخالفات. حيث ادعى بأنه كان مجرد مموّل للعقد حيث قال "أنا لست بريطانيا التي صنّعت الجهاز، ولست وزارة الداخلية التي تعاقدت على توريد الجهاز، ولست الطرف الذي حدّد نوع الجهاز وتسلمه وفحصه واستخدمه" و قال في تصريح له " أنا رجل أعمال ومدير مصرف قمت بتمويل عدة مشاريع وعقود بما فيها عقد جهاز كشف المتفجرات" . وأوضح بأن القضاء العراقي قام بتبرئته من ارتكاب مخالفات. مع ذلك فقد جمع الدباس ملايين الدولارات من الجهاز، وهو يمتلك المصرف المتحد للاستثمار الذي لم يتجاوز رأسماله الأصلي  500 ألف دولار عند تأسيسه في آب 1994. في أيار 2009 وصل رأسمال المصرف الى 85 مليون دولار. مكاسب الدباس تموّل إمبراطورية إعلامية، ففي تموز 2013 أسس قناة تلفزيونية فضائية باللغة العربية تدعى "هنا بغداد" والتي تعتبر وسيلة نفوذ أخرى بيده. وفي ك1 2013 أسس الدباس كتلة سياسية تدعى "تحالف العراق" والتي أطلق عليها بعض المراقبين بمن فيهم الناشط والصحفي نبيل جاسم "تحالف أجهزة الكشف الوهمية". وبعد شهر انضمت الكتلة الى كتلة المالكي لزيادة تأمين شرعيتها. في آب 2014 خسر المالكي منصبه بعد استيلاء داعش على ثلث أراضي العراق بما فيها مدينة الموصل. وقام خليفته حيدر العبادي بحملة لمحاربة الفساد و تقليص الإنفاق, وكان من بين أوائل أعماله إعادة محاكمة الجابري والحكم عليه، حيث  قضى أساساً أربع سنوات في السجن. مع ذلك، وكما فعل الجابري الذي ضحّى ببغداد، ومن أجل إسكات الاحتجاجات المتعلقة بالفساد ونقص الخدمات فقد استمرت الحكومة باستخدام الآلاف من أجهزة ADE 651 في كل أنحاء البلاد رغم ان معظم أفراد الشرطة يعرفون ان الجهاز لا يعمل. ربما لم يكن تعنّت الحكومة في استخدام الجهاز مستغرباً؛ ففي ظل العبادي أصبح تحالف العراق واحداً من أكثر المجموعات المتنفذة في السياسة الداخلية، حيث ضمن وزارة البيئة في حكومة العبادي، كما تم تكليف أحد أعضائه البارزين بتسمية الوزراء التكنوقراط الجدد لحكومة العبادي.
وهكذا يستمر سفك الدماء في العالم، حيث يؤدي استخدام أجهزة الكشف الوهمية الى الموت في العديد من البلدان بما فيها تايلند وباكستان، لكن لم يدفع أي بلد ثمناً غالياً كما فعل العراق حيث شهد، منذ الاجتياح الأميركي في 2003 ، تفجيرات دمويةً بالسيارات المفخخة أكثر من أي بلد آخر. في الحقيقة ان استمرار الاعتماد على جهاز ADE 651 قد ساعد داعش في تأسيس خلافته المزعومة في العراق وسوريا علاوةً على تواجده في أنحاء العالم.
بعد خسارة حياة 307 أشخاص في تفجير الكرادة ببغداد في تموز الماضي، أمر رئيس الوزراء أخيراً بوقف استخدام الجهاز في نقاط التفتيش. لكن الوقت كان متأخراً قليلاً، فما بين نيسان 2007 و تموز 2016 قتل 101.579 مدنياً عراقياً معظمهم نتيجة التفجيرات. بالإضافة الى ذلك، قتل 19.793 جندياً وشرطياً عراقياً بين ك2 2007 و تموز 2016 . الكثير من الضحايا العراقيين – ان لم يكن معظمهم – كانوا يعتقدون واهمين ان جهاز ADE 651 يحميهم. كما قتل 1500 من قوات التحالف في نفس الفترة معظمهم نتيجة التفجيرات.
يوجز نبراس كاظمي، زميل معهد هدسن المتخصص بشؤون الشرق الأوسط، الموضوع قائلاً " ان جهاز ADE 651 الذي استخدم في نقاط التفتيش العراقية هو رمز للفساد في العراق، وانه يلخّص كافة جوانب الفشل الحكومي، حيث يندمج الجهل بالفساد لتمكين الإرهاب". مع محاولة الحكومة اليوم استخدام وسيلة معتمدة لكشف المتفجرات، كالكلاب المدرّبة، من الصعب ان نتصور نهاية سفك الدماء الناجم عن التفجيرات قريباً.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية
تحقيقات

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية

 اياد عطية الخالدي تمتد الحدود السعودية العراقية على مسافة 814 كم، غالبيتها مناطق صحراوية منبسطة، لكنها في الواقع مثلت، ولم تزل، مصدر قلق كبيراً للبلدين، فلطالما انعكس واقعها بشكل مباشر على الأمن والاستقرار...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram