يجمع المخرج البريطاني تيرنس ديفيز أربع مواهب في آنٍ معاً، فهو مُخرج ومُمثل، وروائي وكاتب سيناريو. وحينما يقتبس أي عمل أدبي سواء أكان قصة أم رواية أم مسرحية فإنه يستحضر هذه المواهب الأربع كلها ليختبر صلاحية هذا العمل الأدبي والإمكانيات المُتاحة لأفْلَ
يجمع المخرج البريطاني تيرنس ديفيز أربع مواهب في آنٍ معاً، فهو مُخرج ومُمثل، وروائي وكاتب سيناريو. وحينما يقتبس أي عمل أدبي سواء أكان قصة أم رواية أم مسرحية فإنه يستحضر هذه المواهب الأربع كلها ليختبر صلاحية هذا العمل الأدبي والإمكانيات المُتاحة لأفْلَمته وتحويله إلى خطاب بصَري يسحر أعين المتلقين ويأخذ بتلابيبهم.
سبق لديفيز أن اقتبس روايات مشهورة من بينها The Neon Bible للروائي الأميركي جون كنيدي تول و "بيت الفرح" للقاصة والروائية الأميركية إيديث وورتون التي رُشحت لجائزة نوبل للآداب ثلاث مرات. وقد حقق الفيلمان شهرة طيبة، كما نالا إعجاب النقّاد والمُشاهدين على حدٍ سواء. وبما أن تجربة ديفيز الإخراجية قد ترسخت وأصبحت بمنأى عن الأخطاء والهَنَوات التي يمكن أن يرتكبها أي مخرج مُبتدئ فقد لجأ إلى اقتباس رواية "أغنية الغروب" 1932 للروائي الأسكتلندي لويس غراسِك غيبون وهي القسم الأول من ثلاثية A Scots Quair التي تضمّ أيضًا روايتي Cloud Howe و Grey Granite.
لابد للمخرج أن يعود إلى السنوات التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى ليجسِّد الثيمات والمفاهيم التي شغلت كاتب الرواية آنذاك، والأفكار التي تعِّن في ذهن المخرج وهو يتفحص النص السينمائي الذي كتبه بنفسه من دون الاستعانة بأي سينارست آخر.
تُعتبر "أغنية الغروب" واحدة من أهم الروايات الأسكتلندية، بل أنها رواية الأسكتلنديين المُفضلة بحسب استفتاء أجري عام 2005 وقد اقتُبست غير مرة كمسلسل تلفزيوني، وفيلم سينمائي، وعمل مسرحي وما تزال نابضة بالحياة وقابلة للاقتباس بسبب غناها الفكري، وثيماتها الرئيسة والثانوية، وشخصياتها الإشكالية المستديرة، هذا إضافة إلى إمكانية استيحاء روح العصر الذي كان سائداً في مُفتتح القرن العشرين.
بارقة الأمل
يتفرد النص المكتوب لهذا الفيلم بتعدد ثيماته، وثراء أفكاره الأمر الذي يُحمِّل المُشاهد مسؤولية متابعة هذه الثيمات بحسب أهميتها منذ مُفتتح الفيلم وحتى نهايته. وعلى الرغم من أن الحُب هو العمود الفقري لهذا الفيلم إلا أنّ الثيمات المؤازرة لا يمكن إهمالها بأي حالٍ من الأحوال وعلينا أن نتتبعها لاستكناه مضامين هذا الفيلم والرسائل التي يُريد المخرج إيصالها إلى المُشاهدين علماً بأنه يُراهن على السينما الشعرية، واللغة البصرية، واستلهام روح العصر الذي كان سائداً آنذاك.
توحي اللقطة التأسيسية بتوحِّد كريس غاثري "أغنيس دَين" مع الطبيعة حينما نراها تنهض من استرخائها وسط حقل الحنطة الجاهز للحصاد وهي تستمع إلى صوت الجرس المدرسي في مخيلتها لتأخذنا إلى حصة درس اللغة الفرنسية ولنكتشف أنها الطالبة الأفضل ليس في اللغة الفرنسية فحسب وإنما في اللغة اللاتينية كما تشهد بذلك مُدرِّستها التي كانت تصغي بدورها إلى المُشرف التربوي الذي يزور المدرسة بين أوانٍ وآخر، ويختبر معلومات التلاميذ.
فمن فكرة التوحّد مع عناصر الطبيعة، وهي فكرة أساسية في الفيلم، يأخذنا المخرج إلى الحلم الذي يدور في مخيلة كريس، فهي إنسانة أرضية وسماوية في آنٍ معاً، تلتهم الكتب، وتتعلم اللغات الأوروبية، وتحلم أن تكون مُدرِّسة، المهنة المقدسة التي سوف يصفها الكاهن غيبون لاحقاً بأنها مهنة جديرة بالاحترام.
لا غرابة في أن تحضر لمحات من الفكر الاشتراكي لكنها لم تتجذر في الفيلم ربما لأن المخرج لا يريد أن يتعمق فيها كثيراً كي لا يحوّل المسار السردي عن سكّته فثمة فتاة موهوبة وطَموح تريد أن تُحب وتتزوج وتنجب أطفالاً يملأون منزلها فرحاً ومسرّة. فلا مجال للشطحات الفكرية التي تذهب صوب الفلسفة أكثر من ذهابها إلى المسارات العاطفية والأسرية والحياتية بشكل عام غير أن "الرياح تجري بما لا تشتهي السفن" فتقلب حياتها رأساً على عقب.
العنف الأُسري
تقرأ تلبية لطلب والدها بصوتٍ عال عن الإصلاح والثورة الفرنسية التي بدأت تعبر البحار لكن الأم تظل تردد بأنه "ليس هناك أرض مثل أبردين" وتحاول أن تلفت عناية ابنتها الشابة إلى أرضها ومرزعتها في الريف، فهي، بحسب الأم، أكثر أهمية من الكتب والدراسة! وعلى الرغم من فظاظة الأب جون غاثري "بيتر مولِن" إلاّ أن حسنتهُ الوحيدة ربما هي الاستماع لما تقرأه ابنته بصوتٍ عال. وما أن تصل إلى فقرة الناس الذين يُقتَلون في الاضطرابات من أجل تحقيق الحرية والمساواة والأخوّة حتى نلمس تمرّد الابن المقموع لأول مرة وهو يقول: "المساواة يجب أن تبدأ من المنزل" في إشارة واضحة إلى ظلم الأب وعسفه حيث نراه يجلد الابن ويل غاثري "جاك غرينليز" بالحزام الجلدي ويوسعه ضرباً على مناطق مختلفة من جسده الأمر الذي يضعنا أمام ثيمة فرعية لكنها لا تقل أهمية عن الثيمة الرئيسة لأنها سوف تترك أثرها على العائلة برمتها. فبعد أن يتعرّض "ويل" للضرب أمام شقيقته أو في الحظيرة بعيداً عن أعين الأسرة يتمرّد حتى وإن كان تمرّده سلبياً ويقرر الرحيل إلى أبردين ثم نفهم لاحقاً أنه تزوج من مولي دوغلاس وسافرا إلى الأرجنتين كي يعيش بعيداً عن هيمنة الوالد وسلوكه الوحشي في التعامل مع الأسرة برمتها.
تمتد ثيمة القمع إلى كل أفراد الأسرة من دون استثناء. فالأب جون غاثري شخص قدري ويؤمن بالغيبيات والميتافيزيقيا فلاغرابة أن يطالب زوجته بإنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال بحجة أن السماء تُرسل رزقها إلى المواليد الجُدد. يتجسّد عنف "جون" حتى في علاقته الجنسية مع زوجته جين غاثري "دانييلا نارديني" كما أنّ ذهنيته مغلقة ومتحجرة فلا غرابة أن ينهر ابنته كريس لأنها تخفّفت من فستانها وظلت بملابسها الداخلية المحتشمة التي لم تكشف عن مفاتنها الجسدية خصوصاً بعد انتقالهم من البيت الصغير الذي لم يعد يسع العائلة بعد ولادة التوأم. وبما أن "جون" مستمر في غيّه وفظاظته مع الجميع فلاغرابة أن تقْدم "جين" على الانتحار، إذ سمّمت نفسها مع الطفلين الصغيرين، وفضّلت الموت على مواصلة الحياة مع رجل عُصابي، سادي يحقق لذته في إيذاء أفراد أسرته ولا يجد حرجاً في الصراخ بوجه الطبيب الذي يُشرف على توليد زوجته.
حاولت والدة كريس أن تزرع في ذهن ابنتها فكرة الاعتماد على النفس وخاصة فيما يتعلق بمواجهة الرجال مستقبلاً وكأنها تتوقع أنّ جُلّ المشاكل التي قد تواجهها الابنة مُستقبلاً هي من الرجال القريبين منها وقد نجحت في ذلك. وربما بدت ملامح ذلك النجاح حينما بدأت هي الأخرى تتمرد على قمع الوالد وتحدي سلطته القمعية خصوصاً بعد أن شتمها في أثناء إصابته بالنوبة القلبية التي تركته طريح الفراش وبحاجة ماسة إلى رعاية متواصلة لكنه لم يصمد طويلاً أمام المرض وسرعان ما فارق الحياة تاركاً في وصيته كل أملاكه ومقتنياته وأمواله إليها فقط حارماً بقية الأولاد من أي إرث مادي.
وهج الحُبّ
تتمحور قصة الفيلم على ثيمة الحُب التي أشرنا إليها سلفاً، وهي الثيمة الرئيسة سواء في الرواية أو في الفيلم، حيث تقع "كريس" في حُب فتى مزارع يُدعى يُوِين تافينديل "كيفن غاثري" وسوف يتوّج هذا الحُب بالزواج وإنجاب الطفل الأول لكن الحرب كانت لهما بالمرصاد. فعلى الرغم من أن المزارعين كانوا معفيين من الخدمة العسكرية في أسكتلندا إلا أن قراراً حكومياً جديداً ألغى هذا العفو وأجبر كل المزراعين على الالتحاق بالخدمة العسكرية الأمر الذي يدفع بـ "يُوين" إلى تلبية الدعوة والذهاب إلى فرنسا، خصوصاً بعد أن أتهمه أقرانه بالجُبن والتخاذل.
تنقلب شخصية "يُوين"رأساً على عقب حينما يعود في إجازته الأولى ويعامل زوجته بقسوة وفظاظة مُذكّراً إيانا بسلوك "جون غاثري"، وعنجهيته تجاه الأسرة بكاملها غير أن كريس تتذكر كلام والدتها التي أوصتها بأن تعتمد على نفسها في مواجهة الرجال فبعد أن يوبِّخها "يُوين" وينال وطره منها بالقوة، ويحاول أن يمدّ يده عليها تشهر بوجهه سكّين المطبخ وتخبره بأنها لم تعد خائفة منه، فيغادر المنزل من دون وداع.
ترتبك "كريس" حينما تتسلم رسالة مفادها بأن "يُوين" قد مات في الجبهة كرجل لكنها تعتقد أن هذا الخبر هو كذبة كبيرة وأن الجنرالات الإنكليز يكذبون لكن مجيء صديقه تشاي ستراكان أكد لها بالدليل الدامغ أن "يُوين" قد أعدم لأنه جبان ومتخاذل هرب من جبهة الحرب في فرنسا. وفي مشهد مؤثر قبل إعدامه نعرف، نحن المُشاهدين، معلومة مهمة جداً سوف تقلب وجهة نظر "كريس" بـ "يُوين" رأساً على عقب حيث اعترف هذا الأخير لصديقه "تشاي" بأنه هرب من الجبهة لأجل "كريس" أولاً ولأجل قريته بلاويري ثانيًا. هنا تعيد "كريس" التفكير بحبيبها وزوجها الراحل "يُوين" فتخاطب بِذْلته قائلة: "نَمْ قرير العين أيها الفتى. فعلتَ ذلك من أجلي ومن أجل بلاويري أيضا. نَمْ بهدوء وشجاعة لأنني فهمت".
لا شك في أن المخرج ديفيز يدين الحرب جملة وتفصيلا فهي لا تخرّب النفوس فقط بل تُوقظ الوحوش المُختبئة تحت الجلود البشرية وربما يكون "يُوين" نموذجاً بسيطاً للوحشية التي أظهرها في إجازته الأولى التي حوّلت حياة "كريس" وطفلها الوحيد إلى جحيم لا يُطاق. وعلى الرغم من نعومة شخصية "كريس" وخفّة ظلها إلاّ أنها قد تتحول إلى لبوة جريحة ما أن يُحاصرها هذا الزوج الذي أصبح فظاً وخشناً ووحشياً بسبب الحرب التي تدمِّر النفوس، وتشوّه الأرواح.
لعل من المفيد الإشارة إلى أن "كريس" تتزوج القس روبرت كولهون في القسم الثاني من الثلاثية Cloud Howe لكنه يموت على المنبر في إحدى خُطبه الوعظية. أما في "الصوّان الرمادي"،القسم الثالث والأخير من الثلاثية، فتتابع "كريس" حياة "يُوين" الابن الذي سوف يصبح ناشطًا سياسيًا يساريا لتكتمل الدائرة التي ابتدأت بشرارة النفس الاشتراكي عند بعض شخصيات الرواية.
لابد من الإشادة بمدير التصوير مايكل ماكدونو الذي منح الفيلم لغة بصرية ناطقة وشديدة التعبير. وفي المقابل ننوّه بسلاسة اللقطات والمَشاهد الطويلة والقصيرة وانسيابيتها ولولا الحرفة المونتاجية المرهفة لديفيد كاراب وروي دياز لما توفرنا على فيلم حيوي نابض لا يعطي فرصة للرتابة أو الملل كي يتسربا إليه. وبموازاة التصوير والمونتاج كانت هناك الموسيقى المبدعة لغاست وولتزنغ التي منحت الفيلم نكهة خاصة تذكِّر المتلقي بالقرى والمدن الأسكتلندية كافة وبوروثها الغنائي والموسيقي على حد سواء.