TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مكتبة (2 - 2)

مكتبة (2 - 2)

نشر في: 14 أغسطس, 2016: 09:01 م

الكتبُ خرجتْ من الصندوق إلى الرفوف إذن. أصبحتْ غير مستورة، وتستدعي الفضول. الطريف أن مصطلحَ "وجودي" وجدَ له موقعاً على ألسنة المحيطِ الجاهل، إلى جانب "يساري"، "يميني"، "إسلامي"، وصار مثارَ شغب هو الآخر. ثم أني أصبحتُ مدرساً، بعد التخرج من الجامعة، وصرتُ أتوسط بين مكتبتي وبين الطلبة، فأسعى لأن يقرأوا ما أقرأ. ولم ألتفتْ إلى ما في هذا المسعى من خطورة، لأن كتبَ مكتبتي صارت تحاورهم، وتبعث فيهم التساؤلات، في مرحلة اليقين. أتضح لي في ليلٍ بأني لا أصلح لوظيفة، وبأني شأنَ الكتب، لا أصلحُ لزمان ومكان. صرتُ أعي الرابطَ السحريَّ بين الحرية والتشرد، فبعتُ المكتبةَ الخشبيةَ، وأعدتُ الكتبَ من الرفوف إلى الصندوق، وخرجتُ في فجرِ أول أيام العطلة الصيفية، مع تذكرةِ سفرٍ في حافلةٍ تنطلق إلى دمشق، ومنها إلى بيروت.
النشرُ في مجلات "الآداب"، "شعر"، "مواقف" و"الكلمة" وفّر لي مُسبقاً مكاناً في ثقافة بيروت، فصرت أزور دورَ نشرها (الآداب، الطليعة، العودة...) كلَّ أسبوع، آخذ إصداراتِها الجديدةَ وأعرضها في الصحافة الأدبية. وبالرغم من هزالِ مردودِ الكتابة المالي، إلا أني لم أسعَ إلى وظيفةٍ في الصحافة. كنتُ حراً/ مشرداً مع كتابٍ في قبضةِ اليد. سرعان ما استعدتُ مشهد الكتب على الرفوف، واستعدتُ حوارَها النذيري الصامتِ معي، لأن ثقافةَ بيروت كانت مثقلةً هي الأخرى بعبء صراعِ العقائد، على أنها كانت تُخلي مكاناً رحباً لمن لا عقيدة له، مثلي. ولكن الكتبَ على رفوفها لم تشغلْني عن رؤية الأفكارِ في المحيط وهي تتحول إلى أسلحة. حملتها بعد سنتين ونصف في صناديق وعدتُ إلى بغداد. هناك كانت المدينةُ تحتفلُ بتحالفِ النخب بين السلطة والمعارضة. ولكن كتبي، ما أن استراحتْ على رفوفِها حتى عاودتْ الهمسَ النذيريّ: "حدّقْ في الأفق ترَ دخان الحرائق." وكنت أحدّق.
بعد قرابةِ سنةٍ قرر "السيد النائب" أن يُلحق محلتي العريقة، كاحتراز أمني، بقصرهِ الجمهوري، فجفّلَ الناسَ عن منازلهم. وفي ليلةٍ رأيتني أحملُ صناديقَ كتبي إلى شقةٍ رخيصةٍ في قلب بغداد. حوارُ مكتبتي معي أصبح الآن بالغَ النضج، ونذيرُها اتّخذ بُعداً كونياً: "لقد كنتُ قبلكِ مأوىً لظلّي/ وها أنا بعدكِ مأوىً لكلِّ الظلال..". ولذلك حين صدر فجأةً بلاغٌ من أمنِ الدولة بأن يُخلى كلُّ سكنٍ لعازبٍ في فترة مداها شهر، رأيت الفُجاءة قدريةً. فلم أجدْ لكتبي مأوىً إلا مخزناً لمحلِ نجارةٍ، أسفلَ العمارة التي نقيم فيها، اقترحها النجّارُ بحكم الجيرة رأفةً بي وبالكتب. على أنه بعد فترة وجيزة حذّرني من الرطوبة التي بدأت تنهش الصناديق. أخبرتُ هادي العلوي (المفكر) بذلك، وكنا ننتسب لمحلة مُقتلعةٍ واحدة، فاقترح مكاناً لصناديق الكتب تحت سلم بيته. كنا نُسرّ لبعض ضرورةَ السفر، ولكنه سافر قبلي.
أيُّ حوارٍ عميقٍ بين سجينين؟ أو بالأحرى بين طليقين/ مشردين؟
استضافني أخي المتزوجُ واستضافَ كتبي في بيته، لفترة كنت أُقّدر أنها لن تطول. حديثُ مكتبتي معي تشرّبَ بمذاقِ الحكمة: "إن منفاكَ أبعدُ مدى من انتسابك لأرضٍ، أو لتاريخ. شأني، فأنا لستُ على هذه الأرفف مادةً مُحاصَرةً بإدراك الحواس؛ بل جوهرٌ روحي."
في فجرٍ كذلك الفجر، خرجتُ من بيت أخي مع تذكرةِ سفرٍ دون عودة. واحتفظ هو بالكتب كذكرى لأخٍ لا هوية له. بعد وفاتِه تلاشى كلُّ معنى للذكرى؛ وحدها الكتبُ ظلت أمينةً لأنفاسي بين طياتها، للمسة أصابعي على ورقها ذي الرائحة، لانعكاس حروفها السوداء في البؤبؤين الأسودين. إلا أنها صارت عبئاً على بيت أخي مع سنواتِ الحروبِ الطوال.
استلمتُ قبل فترة رسالةً حزينةً من بائعِ كتبٍ في شارع المتنبي، يقول فيها بأنه رأى مكتبتي تُباع على الأرصفة، وأنه اشترى عدداً كبيراً منها، عليها إهداءاتُ شعراءٍ وكتابٍ عرب وعراقيين تعود لسنوات الستينيات والسبعينيات. وبلغني أن بعضَهم وقعَ على صورٍ فوتوغرافية، ودفترِ نفوس، وأوراقٍ بملاحظاتٍ نقدية...الخ. لم يتلاشَ أثرُها، لقد انتشر ذراتٍ في فضاء أكثر رحابة. والهمسُ النذيري لم يُطفأ، على أن أحداً لم يسمعه وهو يستغيث.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram